د. عبدالحق عزوزي
كلمة الاستراتيجية في معناها العام - كما كتبنا ذلك مرارًا - توحي إلى صياغة السياسة تماشيًا مع مجموع القوى المتوافرة والرهانات والإمكانيات، وليس حصرًا في المجالات العسكرية أو الدفاع، وإنما أيضًا في المجالات الاقتصادية والاستراتيجية والتجارية والصناعية والمالية.. إلخ. فكبار المنظّرين الاستراتيجيين ككلازفيتز عرّفوا الاستراتيجية على أنها (فن استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب)، وعرّفها ليدل هارت على أنها (فن توزيع واستخدام كل أنواع الوسائط والبدائل العسكرية للوصول إلى أهداف السياسة)، بينما عرّفها مولتكه على أنها (الإجراءات والتدابير العملية للوسائل الموضوعة تحت إمرة القائد ليحقق الأهداف المطلوبة). والاستراتيجية من خلال هاته التعاريف توحي بأنها فن وعلم، وهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة، جعلها تنمو وتتسع لتشمل المجالات السياسية الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية.
الاستراتيجية متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل. والاستراتيجي يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية، تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة، ويحقق الغايات المطلوبة؛ فالاستراتيجية تختلف عن تنفيذ برنامج أو ما هو محدد سلفًا.
ثم إن عمل الاستراتيجي يكون مختلفًا عن المخطط؛ ففي مجال التدخل العسكري يكون دور المخطط يتمحور حول كيفية استعمال الأسلحة في المعركة للوصول إلى المردود الأقصى كما يرتئيه الاستراتيجيون، أي إن مجال تدخله يبقى مرتبطًا بالإجراءات والتدابير المختلفة التي على القيادة الميدانية اتخاذها في مكان العمليات العسكرية. هذا هو دوره. أما عمل الاستراتيجي فهو أهم من ذلك. فالحل العسكري عند الاستراتيجي مثلاً ليس هو الغاية الوحيدة لتحقيق الأهداف العليا للوطن بل هناك وسائل أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية ودبلوماسية، ينهجها الاستراتيجيون للوصول إلى الأهداف المبتغاة...
ولإعطاء مثال على ذلك يمكن أن نتحدث عن التوترات الحالية بين روسيا وأوكرانيا التي بدأت تأخذ منحى تصاعديًا، في ظل حشد روسيا قواتها على طول الحدود مع أوكرانيا، وفي أراضي شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو قبل سنوات.
ومع هذا التوتر نرى تخطيطات واستراتيجيات مختلفة تتبعها القوى العالمية لمحاولة التأثير على مجرى الأمور. فهناك القوة الأمريكية، حيث نجد إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن جاءت بموقف أكثر تشددًا مع روسيا، فقد بدأ العام 2021 بدعم أمريكي حجمه 125 مليون دولار لقطاع الدفاع الأوكراني، والتأكيد على الاستعداد لتزويد كييف بأسلحة «فتاكة». وقد أعلن الرئيس الأمريكي بايدن مؤخرًا فرض سلسلة عقوبات مالية صارمة على روسيا إضافة إلى طرد عشرة دبلوماسيين روس. وجاءت هاته القرارات بعد سلسلة أعمال نُسبت إلى موسكو، بما فيها هجوم إلكتروني هائل، والتدخّل في الانتخابات الأمريكية العام الماضي؛ كما فرضت عقوبات على ثمانية أشخاص وكيانات على ارتباط بـ»احتلال» القرم.
ثم موازاة مع هاته الاستراتيجية، نجد أن موسكو تأخذ هاته القرارات الأمريكية بالجد، وتبعث برسالة استراتيجية إلى الولايات المتحدة وإدارة بايدن -الذي صرح بأن بوتين قاتل- مفادها أن الروس جاهزون لكل الاحتمالات، خاصة الحرب، وعلى نطاق واسع إذا لزم الأمر...
كما أن روسيا استغلت بعض الفتور الاستراتيجي في النظرة الهجومية لأوروبا تجاه روسيا في ظل المصالح الأوروبية، وبالأخص الألمانية منها؛ فألمانيا اليوم مهتمة بإتمام مشروع «نورد ستريم 2» لنقل الغاز الروسي إليها مباشرة، وبغض النظر عن تداعياته السياسية والأمنية بل حتى الاستراتيجية.
واهتمت ألمانيا وفرنسا منذ مدة بتحسين العلاقات مع روسيا وإعادتها شيئًا فشيئًا إلى طبيعتها، وهذا اعتبر في دوائر القرار الروسية بمنزلة ضوء أخضر يدفع روسيا نحو مزيد من المطامع في أوكرانيا... ولربما جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة في مقابلة تلفزيونية أجرتها معه شبكة «سي بي إس» الأمريكية تزكي جزئيًا هذا التفسير؛ إذ وبالرغم من أنه أباح بأن بلاده مستعدة لفرض عقوبات على روسيا فإنه في نفس الوقت أكد على أن هناك «حاجة إلى إجراء حوار صريح معها»، وأن العقوبات وحدها «غير كافية»، وأن من الأفضل إقامة «حوار بنّاء» مع روسيا...
وقد يقول قائل إن هدف روسيا الاستراتيجي من هذا التصعيد هو الاستعراض والاستفزاز في المنطقة، ولكن يقيني أنه إذا ما نجحت روسيا بجر أوكرانيا إلى مواجهة عسكرية مفتوحة وواسعة، ومع عدم تكافؤ القوى، فإن المنطقة ستعرف غليانًا غير مسبوق وحربًا ضروسًا سيؤدي فيها الأوكرانيون ثم الأوروبيون فاتورة العلاقات الصعبة في النظام العالمي الجديد.