د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
بعد اتساع مدارات الوسائط الرقمية المرئية (إنستغرام، سناب شات، فيسبوك.. ونحوها) صار الأكثرون يعرضون صورَهم أكثر من كلماتهم، ويركزون على يومياتهم دون ذكرياتهم، وضاق الفارق فيها بين الشباب الصغار والكهول الكبار، وكأنَّ الجميع يودُّ توثيقَ اللحظة التي تفرُّ من ساعاتنا وسط ازدحامِ الحياة وتدافع الأحياء.
** عاش أكثرُنا طفولتَه وقت وجود آلات التصوير من غير أن تحظى بالعناية والأرشفة، وربما تخلص منها فئامٌ لعدم جدواها، أو لشبهة كراهيتها، أو لإهمال حفظها، وأسفَ من استيقظت ذاكرة الأمس في وجدانه كيف فاتته صورُ أوائلِه وحاراتهم ونهاراتهم وأماسيهم، وبات الاتكاءُ على ذاكرة الماضي المحكيِّ منتدى السمّار.
** قد ننسى التفاصيل الصغيرة زمنًا لانشغالنا عنها فنستعيدها في مرحلةٍ متقدمةٍ وننشغل بها لنقرأ عبرها علامات التكوين والتلوين التي رسمت ملامحنا السلوكية القولية والفعلية، ولو التفت الآباءُ والأمهاتُ إلى هذه الهوامش المهملةَ أو المنسيَّة لأجادوا التعاملَ مع تداعياتها؛ فلغة المكاشفة قد تحول دون ازدواجية الشخوص وتأويلات الأقنعة، وربما تتبدل مساراتٌ تربويةٌ ونفسيةٌ عندما نستأنسُ البوحَ ونستطيبُ الاعترافات.
** نثر صاحبُكم بعض حكاياته في كتبه، وروى في وسائطه بعضَها، ولم تكن ذاتَ بال، وبخاصةٍ في طفولته، ربما لاحتوائه من والديه، وتوفر إشرافٍ دقيقٍ عليه، ومنعِه من الشارع وحجبِه عن السهر، وغيابِه أو تغييبِه عن المغامرات وتشابك العلاقات، ولا يكاد يجد فيها ما يستحقُّ الاستدعاء.
** وفي أمثلةٍ عابرة منها رُوي له عن شهوره الثلاثة الأولى أنْ سقط جدار طينيٌ بجانب بيتهم «المستأجر» في محلةٍ تسمى «سوق مصعد»، فنقلهم والده - رحمه الله - في اليوم نفسه إلى بيت مستأجرٍ آخرَ في محلة «الخريزة» قرب مسجدها القائم حاليًا. وفي الفترة ذاتها، ولم يتجاوز عمره خمسة أشهر، أضاعت والدته -حفظها الله- مكان مخيّمهم البري في «الخُبيّبَة» ساعاتٍ طوالًا، وكادا يهلكان عطشًا لولا رعاية الله ثم رجلٌ نبيلٌ وجدهما فأبلغهما مأمنَهما. وفي صفه الابتدائي الثاني أوسعه المدير ضربًا لتوهمه أنه سببُ سقوط طالبٍ على الأرض مع أن السبب دوخة عارضة للزميل، وأوعده زملاءُ له في مدرسة حائل العزيزية عند الخروج دون سببٍ يعلمُه إلا أنه غريبٌ قادمٌ من مدينة أخرى فأنقذه انتظارُ والده له. وفي المقابل احتفى به آخرُ، وأهداه حلوى داخل الصف فعاقب المعلمُ الطالبَ المُهدِيَ بضربات من خيزرانته القاسية فأوقع الرعبَ في قلب المُهدى إليه. وشكاه صديقان لدى المدير بدعوى أنه يُلهيهما عن المذاكرة فدمعت عيناه وتألم من التجنِّي.
** تسير قصصُ طفولته بهذه الوتيرة المسالمة التي قد تكشف نواحيَ في شخصيته، وإن خلت من جديد، بما يوحي أن السِّير المستنسخةَ تُمَلّ، ويتساءل قبل أن يستجيب لمن طلب منه كتابة سيرته الشخصية: ما هي السيرة المقروءة؟ أو كيف نجعلُها مقروءة؟ ولهذا حديثٌ قادمٌ بعون الله.
** السيرةُ لا تنتقي ولا تتَّقي.