د. عيد بن مسعود الجهني
من يقرأ تاريخ النزاعات والصراعات الإقليمية والدولية ويحلل مقاصدها وأطماعها سينتهي إلى القول إن حروب المياه بدأت بالفعل تطفو على السطح، خاصة في حوض النيل وحوضي الفرات ودجلة، ناهيك عن نهر الليطاني ونهر الأردن وينابيع مياه الشرب في مزارع شبعا وغيرها.
لنأخذ مصادر المياه بين كل من تركيا من جهة والعراق وبلاد الشام من جهة أخرى، فتركيا شيدت مجموعة من السدود على منابع نهري دجلة والفرات مما جعل ذلك البلد يتحكم في كميات كبيرة كانت تتدفق إلى العراق وسوريا، حدث هذا في زمن احتلال العراق والثورة السورية وضعف الدولتين عن وقف الزحف التركي نحو مياههما.
على الجانب الآخر الدولة العبرية التهمت مياه أهل فلسطين والأردن، فقد قامت بتحويل مجرى الأردن وتجفيف بحيرة الحولة بل إن بحيرة طبريا أصبحت بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية، وجزء من المياه اللبنانية تصب في إسرائيل، واستولت على (80) في المئة من المياه الفلسطينية لتوفيرها للمستوطنين.
وعند الحديث عن تقاسم مياه نهر النيل أطول وأهم الأنهار التي تجري على الكرة الأرضية، يتضح أنها نظمت بموجب اتفاقيات قانونية دولية، ففي عام 1925 وقعت بريطانيا وإيطاليا اتفاقًا اعترفت بموجبها إيطاليا بحقوق مصر والسودان على النيلين الأزرق والأبيض وعلى روافدهما.
وفي 7 مايو 1929 من ذلك العام وقع اتفاق بين مصر وبريطانيا اعترفت بريطانيا بموجب ذلك الاتفاق الشهير بحق مصر في مياه النيل، وأكد عدم المساس بمصالح مصر خاصة في ما يتعلق بخفض كميات المياه التي تصل إليها أو تعديل منسوبها أو تاريخ وصولها.
وفيما يتعلق بانتفاع مصر والسودان بمياه النيل فقد توصلت الدولتان في 8 نوفمبر 1959 إلى توقيع اتفاقية مهمة نصت على حصول مصر على 55.5 مليار متر مكعب، والسودان على 18.5 مليار متر مكعب من المياه، كما نصت على أن (تتفق الدولتان على رأي موحد بعد الدراسة بواسطة الهيئة الفنية التي نصت عليها الاتفاقية في شأن مطالبة الدول الأخرى بنصيب في مياه النيل). إذًا الدولتان مصر والسودان تعد مياه النهر لهما شريان الحياة الاقتصادية والتنموية والزراعية، فمصر مثلاً تعتمد بنسبة حوالي 95 في المئة على مياه النيل، والاتفاقيات التي وقعتها ومعها السودان والمشار إليها آنفاً تضمن حقوق البلدين في مياه النهر طبقاً لنصوصها وتطبيقاً للقانون الدولي، وهذا ما أقره في عام 1961 معهد القانون الدولي الذي أكد إلزامية الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالأنهار والتي تجري عبر دول متعددة كنهر النيل والدانوب وغيرهما.
وبهذا فإن المعاهدات والاتفاقيات الدولية ملزمة لأطرافها، فهي تمثل إرادة الدول ولا تتغير تلك المعاهدات أو الاتفاقيات بتغير القيادات وإلا لما استقر السلم والعدل الدوليان.
وفي خضم ثورة 25 يناير شرعت إثيوبيا في تشييد سد النهضة لتوليد الطاقة الكهربائية على النهر الأزرق، وعند اكتمال ملئه طبقاً لآراء بعض خبراء المياه سيحرم مصر سنويًا من (10) مليارات متر مكعب، ونتيجته الحتمية حرمان أرض الكنانة من زراعة مليون فدان، كما أن السودان ستخسر (4) مليارات متر مكعب.
وإذا كانت أديس أبابا ومعها دول أخرى من دول المنبع ترتكز في حجتها على أن الاتفاقات السابقة وقعت في عهد الاستعمار فإن هذه الحجة تدحضها محكمة العدل الدولية، حيث أقرت بأن اتفاق عام 1929 شبيه بالحدود الموروثة عن الاستعمار ولا يجوز المساس بما ورد به من نصوص قانونية.
كما أن اتفاقية فيينا لعام 1978 نصت على أن اتفاقيات الأنهار الدولية لا يجوز المساس بنصوصها تعديلاً بالحذف أو الإضافة إلا بموافقة كل الأطراف، فهي كاتفاقيات الحدود الموروثة عن الاستعمار بشره وخيره إن كان فيه خير.
وبناءً على ذلك فقد كانت هناك اتفاقات بين مصر وأوغندا وإثيوبيا في عامي 1991 و1992، نصت على أن هذه الدول الثلاث اتفقت على عدم الإضرار بمصالح أي طرف من الأطراف، والمفهوم القانوني لهذه الاتفاقيات هو الالتزام بالاتفاقات السابقة الموروثة نصاً وروحاً - أي الالتزام الحرفي بما قررته تلك الاتفاقيات.
وإذا كان وضع مياه العراق وسوريا وفلسطين والأردن ولبنان قد انتقص بالقوة بعيدًا عن المعاهدات والاتفاقيات الدولية والقانون الدولي، كما نوهنا آنفًا، فإن الوضع في مصر والسودان يختلف كثيرًا، فالاتفاقيات التي وقعت واضحة النصوص وليست محل التفسير أو التكييف من قبل أديس أبابا التي خالفت المبادئ التي اتفقت عليها عام 2015 .
والموقف الموحد المصري - السوداني المدعوم عربيًا ودوليًا وفي المقدمة الإدارة الأمريكية التي تقف على (ما يبدو) ضد التصرف الأحادي من قبل إثيوبيا المتضمن ملء السد في مرحلته الثانية قبل موافقة مصر والسودان، وبريطانيا هي الأخرى راعية الاتفاقيات المشار إليها لا يختلف موقفها عن الموقف الأمريكي.
ولأن الخبراء المصريين يقدرون خسائر بلادهم بسبب السد بأكثر من تسعة مليارات متر مكعب من حصة مصر التاريخية في مياه النيل، وهذا ينعكس على انخفاض المساحات المزروعة، ناهيك عن انخفاض كميات الكهرباء المولدة من السد العالي.
ورغم أن أثيوبيا من جانبها تقول إن سدها لن يترك أثرًا على حصة مصر من مياه النهر، فهذا ادعاء يخالف تمامًا القواعد الفنية والهندسية والإنشائية والقانونية وجميع الاتفاقيات التي ترفض إثيوبيا الاعتراف بها، وهذا ضد مبدأ القانون الدولي والمعاهدات الدولية بين الدول، وميثاق الأمم المتحدة.
وفي الوقت نفسه تطالب كل من مصر والسودان بالتوقيع على اتفاقية (عنتيبي) الخاصة بتوزيع الحصص على الدول المطلة على النهر، والرد القانوني على مثل هذا الطلب الإثيوبي أن مصر والسودان ملتزمتان بالاتفاقيات القانونية السابقة وأي اتفاقية جديدة تخضع لإرادة البلدين الحرة فلهما الحق بالموافقة،كما أن لهما الحق القانوني بالرفض.
المهم أنه على الرغم من وضوح نصوص الاتفاقيات التي ورد ذكرها إلا أنه لا يمكن إنكار أن هناك خلافاً بين الدول صاحبة المنبع ودولتي المصب مصر والسودان، والطريق الأسلم لحل مثل هذه الخلافات أو النزاعات هو سلوك طريق الحل الودي فهو سيد الحلول من خلال الحوار والتشاور.
وهذا المبدأ طبقته الدولتان مصر والسودان منذ سنوات عديدة لكن التعنت الإثيوبي كان عثرة تكسرت على صخرتها الحلول الودية.
بل إن الدولتين طرقتا باب الاتحاد الإفريقي لأن الدول التسع التي تختلف وجهات نظرها حول مياه هذا النهر العظيم هي أعضاء في الاتحاد الإفريقي وعرضت المشكلة لإيجاد صيغة اتفاق ترضي كل الأطراف، لكن إثيوبيا وضعت عراقيل عديدة أمام هذا الاتحاد وتصر على الملف الثاني قبل الاتفاق مع دول المصب.
ومن يتابع تطورات سد النهضة منذ ولادته يخرج بنتيجة أن سماء العلاقات بين صاحبة السدود ودول المصب ملبدة بالغيوم، وأن إثيوبيا التي على ما يبدو تتلقى دعمًا ما إقليميًا أو إسرائيليًا ماضية في لهجتها المتضمنة ملء السد ضد مطالبة كل من مصر والسودان اللتين متحفظتان على أهلية السد الفنية والإنشائية والهندسية وأسلوب ملئه الذي سيلحق ضررًا اقتصاديًا وزراعيًا وتنمويًا مضرًا بهما.
وإذا كانت نائبة الرئيس الأمريكي السيدة كامالا هاريس صرحت خلال زيارة لها لمدينة شيكاغو بأن الحروب القادمة هي حروب حول المياه، فإن لهذا القول ما يسنده إذا لم تكن الإرادات السياسية في بعض الدول غير ملتزمة بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية.
والقارة الإفريقية ليست بمنأى عن ذلك فمياه النيل شريان حياة، ولذا قيل إن مصر هبة النيل، وقادة مصر والسودان بحكمتهم وبعد نظرهم وتمسكهم بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية ما زالوا متمسكين بالحلول الودية ومعهم المجتمع الدولي، الذي يدعو إلى حل يضمن المصالح لكل الدول، وهذا ما صرح به وزير الخارجية الروسي أثناء زيارته لمصر بتاريخ 12-4-2021.
ورغم أن أديس أبابا ماطلت أمام مجلس الأمن سابقًا لكن يبقى اللجوء إلى الأمم المتحدة ومجلس أمنها أمرًا جوهريًا، فمجلس الأمن تعرض أمامه حقوق مصر والسودان الطبيعية والقانونية والتاريخية في مياه النيل الذي تكفله كل الاتفاقيات والمذكرات السابقة الموروثة.
ويقع على عاتق الدول الخمس صاحبة الفيتو مسئولية تاريخية في تحقيق الأمن والاستقرار والعدل والسلام في القارة السمراء لتجاوز أخطر قضية تواجهها، وذلك بدعم الموقف المصري - السوداني الساعي إلى الحل الودي لحماية مصالح الجميع دون الإضرار بمصالح دولتي المصب والوقوف ضد الإجراءات الأحادية الإثيوبية.
والله الموفق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة