د.فوزية أبو خالد
لا أظن أنني أحتاج لأعطي ملخصًا لمقال الأسبوع الماضي الذي تناولت فيه طيفًا من سيرة علاقتي بالتشكيل، أو بالأحرى أفشيتُ فيه بعضًا من سر التعالق بين موجدة الشعر وموجدة التشكيل في حياتي المعرفية والمعاشة؛ وهذا لأن حديثي عن الشجن السردي لم يكن إلا نتيجة لتجربة الأيام التشكيلية التي عشتها من مطلع فصل الربيع، وبالتحديد من نهاية شهر مارس وبداية شهر إبريل هذا العام، وأردتُ تدوينها هنا من خلال أعمال الكوكبة التشكيلية التي أحيت بالريشة واللون هذه الأيام التشكيلية على أرض الرياض.
وهنا وقفاتي مع اللوحات الشعرية لفاطمة النمر ومحاضرة الكتب واللون لعلياء البازعي والصحراء والنخل في معرض منى النزهة.
صورة الوطن في ملامح النساء
حملت فاطمة النمر روحها في لوحاتها آتية من قاع القطيف ممتدة لهامة البلاد.
بما يزيد على خمس وعشرين لوحة ذات مسمى دلالي عميق «ملامح نجدية» رسمت فاطمة تواريخ من حياة المرأة السعودية على هذه البقعة العزيزة من أرض الجزيرة العربية بمختلف ألوان الطيف من مشتهى اللون اللازوردي السخي في مخيلة بنات هضبة نجد البخيل إلا في ملمس السراب إلى أطياف اللون الأرجواني بدرجاته واللون اللؤلئي بتدرجاته. فجاءت النساء في اللوحات منحوتات من لحم ودم في حفر نادر ليس على الصخر أو الرخام بل على السجاد وعلى السدو، وكأن التشكيل أراد إدخال تلك المنسوجات التي طالما صنعتها أيدي النساء إلى صلب عملية إبداع جديدة عبر الفن التشكيلي. وفاطمة وإن كانت تستخدم كما بدا واضحًا صورتها الشخصية في استعادة وجوه النساء فإن ذلك وإن كان قد يطرح أسئلة على تقنيات التشكيل إلا أنه من ناحية المحتوى قد يعبر عن حالة من التداخل بينها وبين شخصيات لوحاتها في محاولة استحضار نفسها في استحضار عامة النساء كما أنه قد يشكل حالة من الحلول بالمعنى الصوفي والتمثيل بالمعنى السياسي بين فاطمة ونساء الوطن ونساء اللوحة. واللافت لي شخصيًا في معرض ملامح نجدية يتمثل في ثلاث نقاط. النقطة الأولى تتمثل في وعي الفنانة التشكيلية بما أكدته بريشتها وبكلماتها معًا على الجمع في الملامح النجدية بين التراث والمعاصرة فقامت بالإضافة لانتخاب شخصيات تاريخية بالاستحضار التشكيلي لشخصية معاصرة مكثفًا في شخصية شاعرة كرمز إبداعي خصيب للأنوثة وللإنسانية. النقطة الثانية تمثلت في شجاعة المغامرة للجمع بين التشكيل والشعر فاختارت ثلاث ثيمات وقصيدتين من أعمالي الشعرية ورسمتها كتعبير عن ملامح نجدية معاصرة في خمس لوحات باذخة بشخصية المرأة الكادحة الشامخة المتعددة كألوان الطيف الشفيفة كريشة في الهواء. وكانت ثيمة الحرية والسلام والشغف مع قصيدتين هما رائحة الحياة وقصيدة السيل من (ديواني ملمس الرائحة وديواني ما بين الماء وبيني). النقطة الثالثة تتمثل في الخط الفكري - إن صح التعبير - لهذه السلسلة التشكيلية من أعمال فاطمة النمر الذي بدأ تجسيده الأول بمعرضها في البحرين بعنوان «ريحانة»، وعملت فيه تشكيليًا على إنتاج لوحات تعنى بتفاصيل حياة النساء في المنطقة الشرقية من الأحساء إلى القطيف والعوامية، تلاه في هذا الربيع معرضها بالرياض ملامح نجدية لتواصل -بإذن الله- كتابة سيرة النساء بلوحات من الفن التشكيلي بنساء السروات ثم نساء الجوف بأمل أن يعم عملها تمثيلنساء الوطن تشكيليًا عبر كامل تراب المملكة العربية السعودية من أرض الجزيرة العربية.
الكتب واللون أو رائحة القهوة
تعرفت على تجربة الفنانة التشكيلية علياء سعد البازعي عن بعد من خلال رائحة القهوة المندلعة من ورق الكتب القديمة عندما شاهدتُ لأول مرة لوحة من لوحاتها وجهًا لوجه في مجلس بيتهم دون أن ألتقي الرسامة نفسها. وكان ذلك اللقاء التشكيلي الأول كفيلاً بأن يجذبني لأتابع تجربة علياء عبر عدة نوافذ من نوافذ التواصل الاجتماعي وعبر لقاءات معها وعروض للوحاتها في التلفزيون، ولكن أيضًا دون أن ألتقيها شخصيًا، مما جعل معرفتي بتجربتها الفنية أقرب إلى المعرفة الموضوعية بالعرف المنهجي، إلا أنها أشد ولعًا بالمعنى الشعري. فصرتُ أريد قربًا أكبر وتماسًا أشد مع تلك التجربة التشكيلية الشابة لأشفي غليلي من رائحة القهوة ورائحة الكتب، ولأروي نزعة الفضول المعرفي والطفولي التي تستبد بي كأي طفلة تحب الأسئلة، وكشاعرة تعيش على الدهشة. لذا فقد وجدتُ في الدعوة لحضور محاضرة لعلياء عن تجربتها التشكيلية مناسبة جميلة لأقف على مسافة أقرب من اللوحة وصاحبتها تسمح بالتفحص وطرح الأسئلة. وللحقيقة فقد فاجأني المحتوى الإنساني والنسوي والأدبي للوحات علياء بقدر ما سبق وأدهشتني فكرة الرسم بأطياف القهوة على تعدد درجاتها غير المعهود. وقد لفت نظري في تجربة علياء من خلال حديثها ومن خلال لوحاتها ونماذج من معارضها التي قدمت بالمحاضرة ثلاث نقاط أيضًا. النقطة الأولى هي تقنية التشكيل المتمثلة في تقنية نادرة وإن كان اكتشافها بالصين معمرًا، وهي الرسم بمادة طبيعية حية، أي الرسم بسائل القهوة أو بالماء الأسود، وفي ذلك -برأيي- جرأة فنية على المعتاد الفني الذي يكون فيه تعدد الألوان عاملاً مساعدًا في جماليات التشكيل بينما الرسم بلون واحد واكتشاف طاقاته الجمالية الظاهرة والكامنة يشكل تحديًا بحد ذاته. النقطة الثانية هي الحضور الكثيف للنساء في أعمال علياء التشكيلية في التقاء لافت غير متفق عليه مع الأساس الجوهري لتجربة فاطمة النمر وهو حضور المرأة كرمز وطني وكتجسد اجتماعي ومفرد معًا. فقد حضرت المرأة بأشكال عدة في هذه التجربة وعبر قارات عدة من المحلي إلى العالمي ومن حضور الذات التشكيلية الكثيف وتوقها وقلقها وتحولاتها إلى الحضور العام بتعدده الإثني والعرقي وتعدد الهوى والهويات. النقطة الأخيرة هي تلك الروح الروائية التي عبّرت عنها اللوحات في تماس مع اللغة الشعرية وفي الكشف التشكيلي. ففي إحدى تجارب التشكيل لدى علياء نعثر على ما يمكن تسميته «حكايتشكيلية» فالكلمة المنتقاة والمكتوبة بجانب اللوحة لا تعطي انطباعًا بالتجاور بين القلم والريشة كما أنها لا تهدف لتقديم شروح للوحات بقدر ما هي جزء عضوي من تركيبة العمل التشكيلي.
انعكاس المراحل واحتفاء باذخ بخضرة الصحراء ونخلها
في المعرض الذي أقامته جمعية الثقافة والفنون بغرب الرياض للفنانة التشكيلية العريقة منى النزهة شاهد المهتمون بالفن التشكيلي وعشاق ريشة منى وألوانها ما يزيد على خمسين لوحة على امتداد زمني يزيد على ثلاثين عامًا، وعلى امتداد مكاني يشمل البيئة الحضرية، كما يشمل بيئة البداوة، ويمثل شرق البلاد وشمالها من قلب الحسا لقلب حايل وما بينهما من نياط. وقد وجدتُ - وهذا رأي شخصي أيضًا - ثلاث نقاط مهمة تتعلق مباشرة بتجربة التشكيلية منى النزهة الطويلة والمميزة. النقطة الأولى هي تلك الروح التشكيلية الفذة التي عبّرت عنها في شتى مراحل المد والجزر للتحولات بعنوان المعرض التسجيلي اللافت (انعكاس المراحل). وقد شكلت تلك الروح الخيط الرابط بين مختلف المراحل على ما بينها من تخلخل وفجوات، كما شكلت النسغ الحي على ما فيها من تحجر وجمود. النقطة الثانية تمثلت في الحضور الطاغي للنساء في الأعمال التشكيلة لمنى النزهة، وذلك بأسلوب المدرستين اللتين تعمل من خلالهما منى، وهما التجريدية والواقعية. فالمرأة موجودة بكثافة في لوحات منى ولكن ليس بالضرورة في إيهاب نساء فهي موجودة بهيئات عدة. فالمرأة موجودة في لوحات منى بهيئة غزال شارد، بهيئة كتاب أو ينبوع ماء، والنساء موجودات على هيئة أشجار، وعلى هيئة مكتبات ولغات حية وبنات صغيرات، والنساء موجودات أبعد من مد البصر بهيئة غابات من نخيل وحقول من فلوات الصحراء وسرابها وتموج رمالها وبيدائها الشاسعة. بل إنني تعرفتُ في لوحات منى على ثلة من نساء سيرة الأمهات وعلى نفسي وعلى الشموس في قارات عدة في مختلف الأزمنة من الأزل لهذه اللحظة. ومع الحضور المستبد للشمس والصحراء في هذه الأعمال التشكيلية فإن البحر والماء قد سجل بدوره حضورًا بهيًا جنبًا إلى جنب. النقطة الثالثة التي تميزت بها لوحات منى هو هذا الاحتفاء المبرح بحضور المكان في معظم لوحات منى. وكم كان لافتًا لي وللكثيرين من الحضور، بمن فيهم د. مها عبدالحليم رضوي في القراءة النقدية التي قدمتها عن تجربة منى، وجود هذا الكم والكيف معًا في لوحات منى من محاولة الكشف عن أنوثة المكان عبر قيامها بالترميز التشكيلي لخصب الصحراء، تحدي الصحراء وبطولة الصحراء اليومية في حياة المجتمع السعودي ماضيًا وحاضرًا وأبعد.