د. ناصر بن علي الموسى
بنفوس مطمئنة بذكر الله -سبحانه وتعالى-، وقلوب مفعمة بالإيمان بقضاء الله وقدره، وفي الأسبوع الأخير من شهر شعبان الذي يستقبل فيه المسلمون نفحات شهر رمضان المبارك، تقبل الله منا ومنهم الصيام والقيام، ودّعنا الأخ الغالي، والزميل العزيز، والصديق الحبيب، سعادة الأستاذ/ عثمان بن عبد الله بن عثمان الخنين الذي انتقل إلى جوار ربه صباح يوم الثلاثاء الموافق 24-8-1442هـ، وذلك على أثر إصابته بفيروس كورونا المستجد.
وكان أبو خالد -رحمه الله- قد ولد عام 1369هـ في مدينة الدلم بمحافظة الخرج، وقد بدأ حياته مبصرًا، وقضى أيام طفولته الأولى في مدينة الدلم، ودرس في البداية بمدارسها حتى الصف الرابع الابتدائي، ثم فقد بصره، وعلى أثر ذلك التحق بمعهد النور بالرياض، وتعين عليه أن يبدأ دراسته من جديد في الصف الأول الابتدائي، وواصل دراسته في هذا المعهد حتى حصل على شهادة الثانوية العامة عام 1396هـ، ليعمل بعد ذلك معلمًا بمعهد النور للمكفوفين بالأحساء كغيره من المكفوفين الذين كانوا يعملون معلمين في معاهد النور عند حصولهم على هذه الشهادة.
وبعد خمس سنوات تقريبًا انتهى به المطاف إلى العمل معلمًا في مدارس التعليم العام بالدلم، وظل يعمل بها بكل تفانٍ وإخلاص، وكان مثالاً للجد والاجتهاد والانضباط حتى تقاعد بقوة النظام.
وقد تزوج أبو خالد مبكرًا، وهو لا يزال على مقاعد الدراسة، من ابنة عمته ورفيقة دربه أم خالد التي كانت له نعم المعين طيلة حياته، فجزاها الله خيرًا على دعمها ومؤازرتها له، ووقوفها إلى جانبه في خضم معترك الحياة. وقد رزق منها بسبعة أولاد وأربع بنات، حفظهم الله جميعًا ورعاهم.
وقد تشرفت بمعرفة الزميل العزيز عثمان في الصف الأول الابتدائي بمعهد النور في الرياض، واستمرت زمالتنا حتى الصف الثالث ثانوي. ويجمع الذين درسوا مع الفقيد الغالي، أو عملوا معه، أو تعاملوا معه، على أنه لم يُشهد عليه أنه ابتدأ مشاجرة، أو دخل في مخاصمة، أو حتى رفع صوته على أحد، بل كان رجلاً لطيفًا ظريفًا، كافًّا عافًّا، هاشًّا باشًّا، مبتسمًا متفائلاً، وكان يتسم بالهدوء والسكينة والطمأنينة، ويتحلى بالخلق الرفيع، ويتمتع بالتعامل الراقي مع الجميع.
ومع ذلك كله، فإن حياته - رحمه الله - لم تخلُ كغيره من بعض الصعوبات والتحديات، إلا أنه استطاع أن يتغلب عليها بفضل الله وتوفيقه، ثم بالدعم غير المحدود الذي كان يحظى به من لدن أسرته الكريمة، وبعد ذلك بإرادته وعزيمته وإصراره.
واسمح لي أيها القارئ العزيز أن أستعرض معك قصة سكن عثمان بالرياض، وموقفين من مواقفه مع المعلمين بمعهد النور:
فعندما التحق الزميل عثمان بمعهد النور في الرياض عام 1384هـ كان على والده -رحمه الله- يبحث له عن سكن؛ إذ لم تكن توجد إسكانات داخلية آنذاك بمعاهد النور، وكان المكفوفون يأتون من المدن الصغيرة والقرى والأرياف ليدرسوا في معاهد النور التي كانت توجد في المدن الرئيسة، وكانوا يسكنون أفرادًا ومجموعات، وكان عدد أفراد المجموعة الواحدة يتراوح من اثنين إلى خمسة، أو أكثر من ذلك، وكانوا يعتمدون على أنفسهم - بعد الله -؛ فهم الذين يتولون عمليات التنظيف والطبخ في منازلهم، ويقومون بمهمات التسوق لجلب حاجياتهم وتوفير مستلزماتهم.
وفي هذا السياق توجه والد عثمان إلى مجموعة يعرف أفرادها؛ لأنهم من المدينة نفسها التي ينتمي إليها عثمان، وهي مدينة الدلم، فطلب منهم أن يسمحوا لابنه بالسكن معهم، فترددوا في البداية، معللين ذلك بأنهم أربعة من المكفوفين كليًّا، وزيادة كفيف خامس في بيت واحد لن تزيد الأمور إلا تعقيدًا، بيد أنهم سرعان ما استدركوا الأمر، فقالوا لا بأس بأن يسكن ابنك معنا، ولكن بشرط، قال والد عثمان، وكان شهمًا كريمًا: وما شرطكم؟ قالوا أن يسكن أخوه معنا، فهو مبصر، ويستطيع أن يساعد أخاه ويساعدنا كذلك. قال نعم، ويسكن معكم طالما أن في ذلك مصلحة لكم ولأخيه. وبالفعل سكن معهم عبد العزيز أخو عثمان على مدى ثلاث سنوات تقريبًا، كان خلالها هو العين التي يبصرون بها جميعًا رغم حداثة سنه. وبعد عودته إلى مسقط رأسه بقي المكفوفون يرون بقلوبهم ما لا تراه أعينهم، ويتعلمون في مدرسة الحياة مهارات مهمة أصبحت فيما بعد هي الركائز الأساسية التي تقوم عليها برامج تأهيل وتدريب المكفوفين، شأنهم في ذلك شأن الكثيرين من غير المبصرين في ذلك الزمان.
وكانت هذه المجموعة من أفضل مجموعات المكفوفين وأدومها؛ إذ حافظت على أفرادها حتى أكملوا دراستهم بمعهد النور. وبالنسبة لموقفَيه مع المعلمين -رحمه الله- فقد كان الأول يتمثل في أنه كان يدرّسنا في بعض المواد الدينية بالمرحلة الابتدائية معلم طيب، وأستاذ قدير، ومربٍّ فاضل، وكان حريصًا على طلابه المكفوفين، ويعطف عليهم، ويتعاطف معهم، ويحب الخير لهم، لكنه كان يحب الحديث عن الزواج، فكنا إذا أردنا أن نشغله عن شرح الدرس أوعزنا إلى زميلنا عثمان بالقيام بهذه المهمة، فانبرى عثمان يتحدث عن أهمية الزواج، ويركز - بشكل خاص - على المرأة الصالحة، فيصف خصائصها وصفاتها ومزاياها، ويمعن في ذلك كثيرًا حتى تصبح امرأة مثالية، بل خيالية، يصعب وجود مثلها على أرض الواقع.
وكان صاحبنا المعلم يستمع بشغف شديد إلى حديث عثمان الممتع، ويطرب له، ويعقب على مصطلحاته، ويعلق على مفاهيمه، ويستفسر عن مضامينه، ويستمر التفاعل بين الاثنين بشكل عجيب.
أما نحن الطلاب فكنا أصنافًا ثلاثة: صنفًا يستمتع بالحديث الدائر بين الطالب ومعلمه، وصنفًا آخر يشتغل بحل واجباته المنزلية، أما الصنف الثالث فيلهو بأحاديث جانبية. وما هي إلا دقائق وينتهي الوقت المحدد للحصة، فيندم المعلم كثيرًا على ضياع الوقت، ويقول: «هداك الله يا عثمان، ضيعت الحصة علينا».
أما الموقف الثاني فكان يدرّسنا مادة الكيمياء في الصف الأول الثانوي معلم جاء من إحدى الدول العربية الشقيقة، وكان من طبعه أنه ينام في الصف أحيانًا، ويستأذن من الطلاب، ويضع رأسه على الطاولة، ثم يذهب في سبات عميق. وفي يوم من الأيام يبدو أن زميلنا عثمان قد ضاق ذرعًا بسلوك هذا المعلم، فقال لزميله الذي يجلس بجانبه، وهو الآن سعادة الأستاذ المتقاعد عبد الرحمن بن عيسى الغملاس - أمد الله في عمره، ومتعه بالصحة والعافية -: أنا اليوم سوف أتصرف مع هذا المعلم. قال له زميله: وما ذاك؟ قال عثمان: سوف ترى. ثم انطلق مسرعا إلى إدارة المعهد، وأبلغ المدير بسلوك هذا المعلم، وكان مدير المعهد -في ذلك الوقت- رجلاً قديرًا، ومربيًا فاضلاً، يتمتع بشخصية قوية حازمة، هو الأستاذ/ عمر بن عبد العزيز البكر - رحمه الله - الذي ما كان منه إلا أن جاء مسرعًا إلى الصف، وفتح الباب، ودخل، وأيقظ المعلم من نومه، وقال له: يا أخي هذا الصف لم يهيأ للنوم، وإنما هُيئ للتدريس. فأسقط في يد المعلم المسكين، ولم ينبس ببنت شفة. فقال له الأستاذ عمر: تأتي إليّ في الإدارة بعد نهاية الحصة. وبالفعل ذهب المعلم إلى الإدارة، وهناك تم اتخاذ الإجراء اللازم بشأنه، الأمر الذي أدى إلى نقله إلى أحد معاهد النور في المملكة، ثم سمعنا بعد ذلك أن هذا المعلم كان - مع الأسف الشديد - يحمل شهادة مزورة من بلده.
وفي حياة أبي خالد -رحمه الله- وغيره من الذين عاصروه الكثير من الدروس والعبر والعظات للأجيال الحاضرة، ثم إنها تعد شاهد عصر على النقلات النوعية والكمية الهائلة التي حققتها بلادنا الحبيبة في المجالات كافة، وتجسد صورة من صور مراحل تطور تعليم المكفوفين، بل فيها رصد لمدى الانتشار السريع والتقدم الهائل الذي حدث في مجال التعليم بقطاعاته كافة؛ فقد كان على أبي خالد - رحمه الله - أن يتكبد الصعاب بالذهاب إلى الرياض للدراسة بمعهد النور، ثم أصبح بوسعه أن يعمل معلمًا بأقرب مدارس التعليم العام إلى بيته في الدلم.
ولا شك أن وفاة الفقيد الغالي الأستاذ عثمان بن عبد الله الخنين تعد خسارة كبرى لنا في عالم المكفوفين، غير أن أكثر المتأثرين برحيله، وأكبر المتألمين لفقده، هم زوجته وأولاده وبناته؛ إذ إنهم قد فقدوا أعز وأعظم وأعطف وألطف إنسان في حياتهم. وفي كل الأحوال فإنه لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول ما يرضي ربنا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وأن ندعو الله - سبحانه وتعالى - أن يرحم أبا خالد رحمة واسعة، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل كل ما قدم في ميزان حسناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.