عبده الأسمري
في ميادين الحياة وعبر العصور كانت «المعرفة» ولا تزال الدليل الأمثل والسبيل الأكمل للتفريق بين العلم والجهل وبين النجاح والفشل واليقين الأشمل الذي تبنى به صروح «الحضارات» والميزان الذي يرجح كفة «التنافس» والمفهوم الذي يميز التقدم ويبيد التأخر..
توالت الحقب الزمنية وكانت العصور الإسلامية الأولى أنموذجاً في تقدير المعرفة.. وفي تسطير الثقافة.. من خلال التقييم العلني لصاحب المعارف في مجالس القوم وفي مواطن القرار وفي منابع الشور حتى امتلأت الأسواق والمكتبات والمنازل والحوانيت بالكتب وظهرت «التنافسية» المعرفية في أوج نهضتها وعز نهوضها فجادت بلاد المسلمين بعباقرة الطب والفيزياء والفلك والرياضيات والنحو والكيمياء والأحياء وظهر في جانب متواز فطاحلة «الشعر» وحكماء «العصر» وجهابذة «الحكمة»..
في ذلك التوقيت غرق الغرب في حروب الممالك متباهين بأمجاد الرومان والصليبين الزائلة فغابت عنهم المعارف وحجبت عنهم المشارف الأمر الذي جعلهم في تأخر محتوم دفعهم إلى توجيه عقدهم الدفينة نحو المعرفة الإسلامية في أجندات استعمار كانت تركز على إبادة العلوم ومهاجمة العقول قبل المعاقل.. فانتقموا من الثقافة وسرقوا التراث العربي بثمن «المعارك» ولكن للحقيقة وجه ثابت أمام التاريخ.. جعل من التراث المعرفي الإسلامي أساسًا للتقدم والتحضر الذي تتباهى به أوروبا في زيف «الامتلاك» بينما الأصول تتجه إلى المشرق وإلى بلاد المسلمين بوابة «العلم « الأولى وقبلة «الابتكار «المثلى.. وإن قامت في بلاد الغربيين حضارة فإنها على «أعتاب» فكر إسلامي أصيل كان نتاجه «الاختراع» ونتيجته «الإبداع» وتشهد به الوقائع وتنطق به الحقائق.
المعارف منظومة تعكس فطرة الإنسان وميله نحو العلم واتجاهه حيث التعلم وارتباط النفس بحب الاستطلاع وترابط العقل مع سعة الاطلاع لذا كانت المفهوم المقترن بكل إنتاج يصنع للشخصية البشرية قوامها وقيمتها ومقامها أمام بصائر «البحث» وصولاً إلى مصائر «الاستنتاج».
ارتبطت المعارف بنظم تقييم مختلفة في ظل «موضوعية» واجبــة و«ذاتية» دخيلة وسط اتجاهين متباعدين ومتعاكسين في حضور مفترض للشفافية والنزاهة والأمانة يصنع من المعرفة اسمًا جامعاً لكل تكريم وتقدير وتتويج أو تدخل مريب للمحسوبية والسذاجة والرعونة يضيع الجهد ويلغي المنتج ويصادر القيمة.. فتحل الوساطات وتسيطر المظالم لتشوه «المنطق» في ظاهرة بائسة تخترق أسوار السواء بأوهام السوء..
المعارف «قيمة» تصنعها دوافع الإنسان للاكتشاف وبحثه وراء الجديد وملاحقته لوميض التجديد في المنافع التي تصنع للبشرية أبعاداً من السداد في خدمة الناس وفي مساعدتهم وإعانتهم في جوانب التزود بالنفع والتجرد من الجهل لصناعة أمنيات متجددة في دروب الحياة لأجيال قادمة عليها أن تعي وتقدر وتحترم المعرفة وكل ما يتعلق بها من اتجاهات علمية وبحثية وتحليلية وتفصيلية.
يعاني بعض أصحاب «المعارف» بشتى أنواعها وأبعادها واتجاهاتها وتفاصيلها من تعتيم تتسبب فيه ثقافة رجعية أو تتورط فيه سخافة راجعة تسيء للمنهج البشري القائم على احترام الأفكار النيرة وتقدير العقول المستنيرة وصولاً إلى «عدل حتمي» يعطي للمعرفة قيمتها الحقيقية وقامتها الواقعية واستقامتها الواقعية في عوالم الاعتراف ومعالم الإنصاف.
ظهرت «المعارف» كنجوم أضاءت سماء الريادة وكورود نثرت عبير السعادة لتؤسس أركان «التحضر» وتؤصل مفاهيم «التطور» وتضيء إشعاع المجد في متون «الحضارة» وتؤكد إبداع الجد في شؤون «الجدارة».
تستلهم المجتمعات الراقية والمتقدمة والمتحضرة أبعاد وأصداء مراحلها الانتقالية من واقع قوة «المعرفة» التي تبدد كل تحديات التغيير المرتبة بالتضليل فيكون أفراد هذه المجموعات الإنسانية على قدر من المسؤولية الذاتية التي تحتم أن يتم وضع الأمور في نصابها ومواجهة الأنانية وإغلاق بابها لتوظيف «قيم» التقييم الحقيقي لكل شخصية معرفية قدمت «العطاءات» بواقع الإنتاج وواقع النتاج وأن يكون المنتمون لهذه الجماعات المتسلحة بالفكر والموشحة بالتفكير أصحاب رأي ومالكي قرار وصناع منهج..
ستبقى المعارف بين همة «التقييم» التي ينجح فيها الغانمون بالخير وغمة «التعتيم» التي يفشل وسطها المتشبثون بالشر فتتجلى قيم «التأييد» وتسقط خدع «التحييد» لذا فإنه من الأولى والأجدى التمسك بأصول المعرفة والمضي بها من منصة الحاضر نحو قمة المستقبل ومن عمق الواجب إلى أفق الوجوب مع الاعتماد على البدايات والاستناد إلى المنطلقات.