د. فهد بن أحمد النغيمش
أحقاً مدّ الله في أعمارنا، وبلّغنا شهر رمضان؟
الله أكبر.. الحمد لله.. قولوها بقلوب شاكرة صادقة عازمة على تجديد العهد مع الله.
الحمد لله الذي مدّ في أعمارنا ونسأ في آجالنا، وألبسنا لباس الصحة والعافية.
الحمد لله على بلوغ الشهر.. فوالله لقد تخطفت سهام المنايا أقواماً لم يكن بينهم وبين رمضان سوى لحظات، ولكن سبق عليهم الكتاب، وطويت الصفحات، وغادروا الحياة، وأصبحوا في عالم الأموات.
وها نحن اليوم قد منّ الله علينا وأدركنا شهراً عظيماً، وموسماً من مواسم الخيرات كبيراً، أدركنا شهراً يقول فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»، «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ»، «وَلَخلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» رواه مسلم.
أدركنا شهراً يقول فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلّ لَيْلَةٍ» رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني في المشكاة (1960).
أدركنا شهراً يقول فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه.
فهل يمر علينا شهر رمضان كغيره من الرمضانات، نوم في النهار، وسمر في الليالي، مثله كسائر الليالي والأيام؟
هل يليق بمسلم أن يستقبل رمضان وقلبه قد أهلكته الأمراض من غل وحسد وحقد وشحناء فلا هو يهنأ بصلاة ولا صيام ولا تلاوة لكتاب ربه سبحانه! شغله الشاغل وتفكيره الدائم كيف اغتنى فلان، وكيف صار إلى ما صار ولماذا فلان أحسن مني مكانة ومنصبًا ومالاً....؟ وهكذا هو في دوامة تفكير دائم وشغل شاغل!
أتظن أن هذا وذاك يهنأ بعبادته وطاعته ويكون رمضان عليه زيادة في حسناته أم سيئاته؟!
من أعظم مقاصد الصوم التقوى حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فالأثر شيء يخالج القلب، ويظهر على الجوارح، فهل يكون للقلب نصيب من هدايا رمضان؟
لنتذوق طعم الفرح الحقيقي بنعمة بلوغ هذا الشهر، ولذّة التنعم بعبادته؛ لنقف هنية مع أنفسنا لنأطرها على الحقّ والطاعة أطرًا، ونزجرها عن المعصية زجرًا.
أحد عشر شهرًا والنفس تجري لمستقر لها، أحد عشر شهرًا والوحشة قد أصابت من النفس ما أصابت..
أحد عشر شهراً قضيناها في جهاد العيش، وصراع المادّة، وكبد الحياة، تكدّر فيها القلب، وتبلّد الحس، وتلوّث الضمير، وسهلت على نفوسنا المعصية، وهانت علينا الخطيئة، فنسينا كثيراً، وسبحنا في الدنيا سبحاً طويلاً.
أحد عشر شهراً هوت بنا في وادٍ سحيق من الظلمات، والشهوات، والشبهات، وضياع الحقوق، والتمادي في العقوق.
وها نحن اليوم قد وضعنا أقدامنا على أعتاب رمضان، وبلّغنا الله الشهر الذي يملأ النفوس خيرًا، ويدفعها إلى البر دفعًا.
أدركنا رمضان الذي يقول فيه المنادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.. وشد عزمك، وجدد أملك، وأصلح شأنك، وعد لربك.
شهرنا شهر واحد، يمحو عذابات وآلام السنين..
شهر واحد يذهب بأوزار كأمثال الجبال..
شهر واحد يغسل العبد من ذنوب طالما تألم لفعلها..
فعن جابر بن عبدالله -رضِي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رَقِي المنبر، فلمَّا رَقِي الدرجة الأولى قال: ((آمين))، ثم رَقِي الثانية فقال: ((آمين))، ثم رَقِي الثالثة فقال: ((آمين))، فقالوا: يا رسول الله، سمعناك تقول: آمين ثلاث مرات؟ قال: ((لَمَّا رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل -صلى الله عليه وسلم- فقال: شَقِي عبدٌ أدرك رمضان فانسَلَخ منه ولم يُغفَر له، فقلت: آمين، ثم قال: شَقِي عبدٌ أدرك والدَيْه أو أحدَهما فلم يُدخِلاه الجنة، فقلت: آمين، ثم قال: شَقِي عبدٌ ذُكرتَ عنده ولم يصلِّ عليك، فقلت: آمين)). (أخرجه ابن خُزَيمة، والبخاري في «الأدب المفرد»).
لقد جاء رمضان ليساهم في تغيير مسار حياتنا.
جاء رمضان ليقول لكلّ واحدٍ منّا: «ذق أثر الجوع لتتلذّذ بالخشوع».
جاء رمضان ليضعف الشّهوة، ويربّي القلب، ويزكّي النّفس.
جاء رمضان ليقول لكل ظالم لنفسه، وغافل عن ربه:
كفى ما كان... فقد طال زمن العصيان.
رمضان فرصتنا للإقبال على القرآن تلاوة، وتدبراً، وسماعاً.
رمضان فرصتنا لخلوة تفيض فيها الدمعات، وتنسكب العبرات، وتلهج الألسن بالذكر والمناجاة.
رمضان فرصتنا لجمع القلوب على موائد الحبّ، والصفح، والعفو.
ما الذي يرجوه العبد من ربه في رمضانَ؟
لو سألنا أنفسنا هذا السؤال لوجدنا سلسلةً طويلةً من الأمنياتِ والآمال.
ولكننا نتفق جميعًا على سؤال الله تعالى سؤالاً واحداً، هو غايتنا، ورجاؤنا في كرم ربنا.
رجاؤنا جميعًا أن يعتقنا الله، يعتقنا من أسرِ الشيطانِ..
يعتقنا من قيدِ المعصيةِ، يعتقنا من هوى متبع، ونفس أمّارة، وكيد الشيطان، وفتنة الدنيا، وتقنية دمّرتنا، وشهوات غلبتنا وقهرتنا.
إن رجاءنا في كرم ربنا أن يعتقنا من أمراض ظاهرة وباطنة، حالت بيننا وبين ربنا.
إن رجاءنا في كرم وجود ربنا أن يعتقنا من النار.
نطلب من الله الكريم الرحيم العتق من النّار في رمضان، والفوز بالجنان.
والسؤال الضخم: ماذا يطلب رمضان منّا؟
نعم عبد الله، ماذا يريد رمضان منّا؟
رمضان يريد منّا أن نعظّم شعائر الله..
رمضان يريد منّا أن نراقب الله في السر والعلن..
رمضان يريد منّا أن نعلم جميعاً أن قرار التغيير والإصلاح لأنفسنا وأسقامنا هو بأيدينا نحن، فنحن أصحاب القرار في تغيير أنفسنا، فالحياة في رمضان مع القرآن تتغيّر، قلوبنا تتغيّر، حفاظنا على الصلاة يتغيّر، قيامنا في الليل يتغيّر، أرواحنا تتغيّر، أخلاقنا تتغيّر، نفوسنا نحو العفو والصفح تتغيّر، حديثنا مع بعضنا يتغيّر.. الحياة كلّها تتغيّر.
فرمضان شهر يعلّم القلب كيف يخشع ويخضع؟
كيف ينكسر ويرق؟
رمضان شهر يعلّم العين كيف تدمع من خشية الله؟
رمضان شهر يعلّم المذنب كيف يتوب ويعود؟
رمضان شهر يعلّم الروح كيف تحلّق في سماء الروح والمناجاة مع الرب الكريم سبحانه، فأكثروا فيه من الدعاء لأنفسكم ولوالديكم ولمن تحبون ولولاة أمرنا، وأن يحفظ بلادنا وحكامنا من كل مكروه وسوء، ويحفظهم من مكر الماكرين وكيد الكائدين.
** **
- إمام وخطيب جامع التويجري بمركز التويم بسدير