منال الخميسي
من يطالع الآن تلك الكلمات قد يكون في مقتبل العمر، ظهرت على وجهه علامات الشباب، أو من بدا جمالها يلفت الأنظار، من رُزق بولد الأمس أو ينتظره اليوم، من شاب شعر رأسه دون أن يدري، من يشاكسه أحفاده أو يشعر بالضجر من صخبهم،
قد تكون أنت من بين هؤلاء هيكلاً يحمل عمرًا لا يشعر بمروره، ولا كيف مضى، أنت كما أنت، نفس الطفل الذي كان مدللاً بالأمس أو غير مدلل، ذاك الطفل الذي يتعرف لتوه على الحياة من حوله، وما إن أدرك لها معنى حتى سرقت منه عشرات السنوات أو أكثر، كلما يزداد فهمه شيئًا فشيئًا تسرق منه سنوات، وتغير ملامحه بلا حول ولا قوة، حتى إذا وصل للقدر الذي يظن به أنه أدرك معنى الحياة جيدًا لم يعد يلهث وراء الصغائر ولا يتعلق بمن لا يستحق، ويقدر كل خطوة قبل أن يخطوها، وتهدأ لديه مطالب ومشاحنات الحياة..
يجد نفسه شارف على النهاية.
عمر مضى بذاك الصغير الذي بداخله الذي لا يراه إلا هو. الجميع يرى شعراته البيضاء وكرمشات وجهه والتجاعيد التي لا تسمح لملامحه الحقيقية بالظهور، ذلك السجن الذي وضع فيه، والحد الذي رسم له كي لا يستطيع أن يتعداه.
كثير ممن مرت بهم سنوات العمر يندمون على أنهم لم يعيشوا لحظات السعادة التي أُتيحت لهم، يندمون على فرص ضاعت للاستمتاع بسفر أو قرب من صديق أو والدين أو شريك للحياة، ولم يستغلوها وفرطوا فيها، ومنهم إذا ما تذكر ما مر به ابتسم ورضي عن كل تصرف وموقف لم يضيعه للاستمتاع بحياته والعيش فيها بسعادة، وإن سألته عن شيء ندم عليه يقول لك لا شيء، ولو عادت بي الأيام لأعدت التجربة نفسها.
كل منا خُلق وعاش في هذه الحياة بوجهة نظر، وبأسلوب يخصه هو، لا يمكن أن يتطابق مع الآخرين. كلنا يفعل ما يروق له وما يفهمه من معنى السعادة والرضا. كلنا على الطريق نفسه، منا من يختار سرعة الوصول بكل مخاطرها، ومنا من يفضل اتخاذ سبل السلامة حتى ولو كان وصوله أبطأ.
منا من يمكن أن يمضى عمره داخل حجرة أو بيت بجانب طعامه وشرابه وأدوات تسليته، وتكون تلك السعادة بالنسبة له، ومنا من لا يسعه الفضاء الذي حوله، يحب الانطلاق والسفر، ويجد سعادته في التجربة والتعرف على الجديد.
ومنا من يجد سعادته في العمل حتى وإن كان بلا هدف، فهو يرى أنه خُلق ليعمل، والعمل في حد ذاته بالنسبة له هو الحياة.. وآخر يرى السعادة في رضا الآخرين عنه أو في تحقيق مكانة بين الناس. امرأة ترى السعادة في رضا زوجها، وأخرى ترى بر أهلها أهم. واحدة ترى في عملها متعة، وأخرى ترى في بيتها جنة.
كلنا ذاك الصغير الذي كان في الأمس يرى الكبار، ويعجب بجانب معين من شخصياتهم وتجاربهم، وقرر أن تكون حياته في الجانب الذي رأى منه القدوة أو حتى تفادي الأخطاء.
ففي بعض الأحيان ترى ابنتك أنكِ كنتِ تبالغين في الأعمال المنزلية فتقرر هي أن تقنن تصرفاتها وأعمالها، وتحافظ على جمالها لأنها رأت منك إهمالاً في حق نفسك. وأخرى رأت في أمها شخصية متواكلة لا تعتمد على نفسها فقررت أن تواجه هي الحياة بكل قوة وبمفردها، لا تعتمد على أحد.
ويرى ابنك أنك كنت تبالغ في تعلقك بعملك، وتهمل أسرتك، فيقرر عندما يكون أسرة أن يكون قريبًا من أبنائه تفاديًا لما شعر به من ألم ابتعادك عنه، وآخر يراك متسرعًا في قراراتك، تحكم تصرفاتك العصبية فيقرر أن يكون مواجهًا لأمور حياته بعقلانية وتريث تفاديًا لأخطاء رآها منك.
كثير يرى القدوة في الأخوال أو الأعمام أو حتى من يقوم بالتدريس له، ولا يراها في والديه وإن بذلا جهدًا كبيرًا في ذلك.
يختار ما يراه يصلح للتجربة واعتماده كأسلوب حياة وتقرير مصير. يراها لاحقًا خطأ أو صوابًا لا يهم، المهم أنه اختار طريقه ومضى فيه.
يندهش العديد منا من أن تصرفات الأبناء لا تتطابق مع ما حاولنا أن نربيهم عليه، ونغفل عن أننا قدمنا لهم دون أن ندري خارطة الطريق الخاصة بهم، وتحكمنا بأخطائنا وهفواتنا في قرارهم بأن يكونوا مثلنا أم لا بأن يتفادوا ما رأوه خاطئًا ونراه نحن عاديًا.
فمن الأفضل أن نلتفت لأنفسنا جيدًا، لتجاربنا نحن، ونترك لهم معامل التجارب الحياتية مفتوحة مع القليل من الاحتياطات والنصائح بالأمن منها أو الخطر. نحن لم نولد ونعيش على هذه الأرض بدون أخطاء، وقد نكون سلكنا طرقًا وعرة أو ممهدة أوصلتنا لما نحن عليه من خير أو غير ذلك. لا بد أن نترك لغيرنا حق التجربة وفهم الحياة، ولتكن نصائحنا لغيرنا ألا يفرط في ذاك الصغير الذي بداخله، يقرر كيفما شاء، ويسير كيفما شاء، ولكن يحرص على نقائه وصفاء نفسه، ويرضى بما مر به وما وصل إليه.. يسعد برونق الشباب في وقته وشعور الأمومة والأبوة في حينه، يفخر باختيارات الأبناء، ينعم بصخب الأحفاد، يكون شديد الفرح ببعض الشعرات البيضاء التي احتلت جبهته وتأبى إلا أن تبقى تذكره بما مر من عمره، وبما منحه الله من فرصة كبيرة ليكون من بين من عمّر الأرض وحمل الرسالة وأدى الأمانة.
الحياة لك.. عشها كما تشاء كي تأتي النهاية وأنت راضٍ!!