د. تنيضب الفايدي
تتكون الأبواء من جبال قليلة الارتفاع وآكام وصحارى وأودية، ومناخها شديد الحرارة صيفاً، وشديدة البرودة شتاء، وترجع تسمية الأبواء وفق المراجع التاريخية نسبة إلى الوادي الذي ينحدر إلى البحر جاعلاً أنقاض ودان على يساره، ويمرّ ببلدة مستورة ثم يصبّ في البحر، وقال ثابت بن أبي ثابت اللغوي إنها سميت بذلك لتبوء السيول لها، وقال الشاعر كثير عزة وهو ممن سكنها وأقام بها: سمّيت كذلك لأنهم تبوءوا (أي: اتخذ) بها منزلاً. وقد مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم عدة مرات، كانت الأولى مع والدته، والثانية مع عمه أبي طالب وعمره 12 سنة، والثالثة عندما خرج لتجارة السيدة خديجة رضي الله عنها، والرابعة في غزوة الأبواء والخامسة في غزوة الحديبية، والسادسة في عمرة القضاء والسابعة عام الفتح والثامنة في حجة الوداع.
كما ارتبط هذا المكان بغزوة شهيرة كانت أولى المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر صفر سنة 2هـ، وبالأبواء قبر السيدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف من بني زهرة أم النبي عليه الصلاة والسلام وكان السبب في دفنها هناك أن عبدالله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمراً، فمات بها، فكانت زوجه آمنة تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره (كما روى المؤرخون)، فلما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين، خرجت به ليزور أخوال جده عبد المطلب بن هاشم، وكذا قبر أبيه عبد الله بن عبدالمطلب بيثرب، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة وقد كانت ضعيفة الجسم، متأثرة من لذعة فراق زوجها طوال سبع سنين، وهي عروس، وبدأ عليها الإعياء بسبب السفر والصعوبات التي واجهتها في الطريق وعدم وجود من يعتني بها ويمرضها، فشعرت وهي بهذا الموقع بمرض الوفاة، وتشبثت بوحيدها معانقة له وقد انهمرت الدموع من عينيها فأخذ صغيرها يجفف دمعها بيده اللطيفة مستمرئاً لذة الحنان الفياض، وآخر كلماتها (تركت خيراً وولدتُ طهراً) وقد جلس اليتيم الصغير محمد قريباً منها يحدق فيها صامتاً واجماً عاجز الحيلة عندما غطت أم أيمن (بركة الحبشية) الجسد الراقد وتعصب الوجه الشاحب، وتغمض العينين المنطفئتين، وخيّم على الكون صمت رهيب، مزّقه بعد حين صوت صبي مُرَوّع مكتوم، انحنى على جثة أمه في العراء يناديها فلا تلبي نداء ثم انحنى يريد أن يستبقيها، وعلا نحيب القوم -من الأبواء - من إشفاق وتأثر، وخلّوا بينه وبين أمه ساعة أو بعض ساعة ثم نحّوه عنها في رفق، وأضجعوها في لحدها... وسوّوا عليها الرمال.
وقد وقف الكاتب على الأبواء وتذكر حالة الطفل (محمد صلى الله عليه وسلم) أثناء وفاة أمه في هذا الموقع المقْفِر، وتأثر تأثراً كبيراً، بل بكى، ولكنه تذكر قول الله سبحانه تعالى لسيدنا موسى عليه السلام {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}. بينما قال تعالى فيما يخص نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}. والمتأمل في {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} و{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} يلاحظ الفرق، وقد زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فعن أبي هريرة رضي الله عنه: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله.