د.عبدالرحيم محمود جاموس
فلسطين مازالت ترزح تحت نير الاحتلال الصهيوني البشع العنصري الاستيطاني الاقتلاعي، والذي يمثل صورة من أبشع صور الاستعمار التي شهدتها البشرية، ويمثل آخر احتلال على وجه الكرة الأرضية ويزداد شراسة يوما بعد يوم لأسباب عدة، أهمها النظام الدولي المنحاز للصهيونية منذ قيام كيان الاستيطان والاغتصاب والاقتلاع العنصري الصهيوني في النصف الأول من القرن العشرين، لكن حيوية الشعب الفلسطيني وقوته وقدرته وكفاحه من أجل حقوقه المشروعة بالوسائل والأساليب المختلفة، ودعم أشقائه العرب وأصدقائه من قوى الحرية والتقدم والسلام، أبقت على هذا الكيان في أزمة وجودية وحالت دون انتصاره الساحق على الشعب الفلسطيني، بل جعلته في حالة من الانكسار لا يدركها أحد غير الشعب الفلسطيني، الذي يسجل يوميا أبهى صور الصمود والتشبث بأرقى أشكال الحياة على أرضه، التي تضاهي أبهى صور التقدم عبر مراكمة الإنجازات اليومية في مختلف الحقول والميادين الحياتية التي تكشف عن صلابته وتمسكه بحقوقه المشروعة في وطنه وحقه في العودة والحرية والاستقلال وبناء مؤسساته الوطنية على أسس من روح العصر والمدنية والديمقراطية، رغم كل ما يتعرض له على يد الاحتلال الغاشم في كامل وطنه... لكن أمله وإيمانه الذي لا يلين ولا يتزعزع يجعل منه شعبا قادرا على استمرار الصمود ومواصلة رحلة الكفاح بكل أبعادها وصورها المختلفة.
فلسطين قبل أن تتحرر وتقيم دولتها المستقلة، قدمت نموذجا حيا لشعب حي يتمسك بكل صلابة بحقوقه وبحقه في الحياة على أرضه، وهو على درجة عالية من الوعي والثقافة والحداثة والمعاصرة، قد أرسى قواعد صلبة ومتينة للبناء على أسسها مستقبله الواعد في الحرية والاستقلال والديمقراطية..
الآن يقدم الشعب الفلسطيني تمرينا فريدا في الديمقراطية من خلال خوضه استحقاقا انتخابيا في داخل الأراضي المحتلة لانتخاب 132 نائبا للمجلس التشريعي يوم 22 أيار - مايو القادم، تتنافس فيها ست وثلاثون قائمة انتخابية، حسب ما أعلنته لجنة الانتخابات المركزية، لا شك أنها تعكس حجم التعددية والتنوع، التي يتسم بها الشعب الفلسطيني من الناحية السياسية والثقافية والاجتماعية والمناطقية... الخ.
لا شك أن هذا العدد الكبير من القوائم المتنافسة يطرح عليها مجتمعة السؤال: لماذا هذا العدد الكبير الذي تجاوز ضعفي عدد الفصائل والأحزاب والقوى الفلسطينية الناشطة والمعروفة بين أبناء الشعب الفلسطيني؟، هذا التساؤل يحتاج إلى بحث معمق للإجابة عنه، كنا ننتظر أن يكون عدد القوائم مساويا أو أقل من عدد الفصائل والأحزاب المعروفة .. لكن يظهر أن بعض الشعب الفلسطيني لم يجد في قوائم تلك الفصائل والأحزاب ما يلبي تطلعاته ومطالبه سواء كانت سياسية أو اجتماعية، يضاف إلى ذلك عوامل أخرى داخلية وخارجية مؤثرة، قد دفعت جميعها إلى تشكيل هذا العدد الضخم من القوائم المتنافسة والتي تعكس حالة من التشرذم لدى النخب السياسية بشكل أو آخر، والتي عجزت عن إقامة تحالفات وائتلافات تؤدي إلى اختصار هذا العدد الكبير من القوائم .. وهذا يذكرني بمقالة قديمة لصديقي وزميلي د. ابراهيم ابراش كانت بعنوان (موسم الهجرة إلى المجلس التشريعي)... فالكل يسعى للوصول إلى كرسي التشريعي ويتمتع بمزايا السياسية والمعنوية والمادية، هذا ما يؤكد الحالة الاستثنائية الخاصة للشعب الفلسطيني بكل المقاييس، الذي لا يعيش منعزلا عن محيطه الجغرافي من جهة وعن بقية دول العالم من جهة أخرى وعن مؤثرات الاحتلال، لكن حصافة وتجربة الشعب الفلسطيني هي على درجة عالية من الذكاء ستمكنه من اختيار الأنسب والأفضل والمعبر عن بعده الوطني الواسع المتنوع والمتعدد، وفيها يكمن نجاحه في تمرين الديمقراطية.
الحقيقة السياسية الواضحة أن بعض هذه القوائم لم نجد ما يميزها كثيرا عن بعضها البعض من الناحية السياسية والبرامجية والمطلبية، بل بعضها يفتقد أصلا للبرنامج أو للرؤية أو للمطالب التي تبرر صياغة تلك القائمة ودخولها المنافسة، سوى تطلعات شخصية لأصحابها تتعلق بالناحية المعنوية والمادية والعشائرية على المستوى الشخصي والفردي البحت.. إن مثل هذه القوائم بالفعل تفقد مبرر وجودها وخوضها السباق للوصول إلى كرسي التمثيل البرلماني في ظل المطالب الوطنية الكبرى والجامعة، وتجد بعضها مجرد انعكاس لامتدادات ما فوق وطنية أو صدى لتدخلات خارجية في الشأن الفلسطيني، وبعضها لا غاية له سوى تشتيت الأصوات حيث يدرك منظموها عجزها عن الوصول إلى نسبة الحسم، وفي هذا خدمة لبعض الأحزاب والقوى كبيرها وصغيرها.
على أية حال نستطيع أن نستخلص أن الشعب الفلسطيني يقدم من خلال هذه الانتخابات وهذه المنافسة تمرينا ديمقراطيا مهما في إطار سعيه لإعادة صياغة نظامه السياسي واستعادة شرعياته الانتخابية، وسعيه لترسيخ ثقافة الديمقراطية لديه واعتبارها شكلا مهما من أشكال النضال يواجه بها المحتل، على طريق إنهاء الاحتلال واقتلاع الاستيطان وتعزيز صموده في وطنه وتثبيت حقه في العودة والحرية والاستقلال في دولة عصرية مدنية ديمقراطية.