د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
كما نعلم أن للتعليم أهدافًا تربوية ومعرفية وإنتاجية تجمعها حُزَمٌ من القيم والأخلاق، وهو الغرسة الأولى لبناء اليقين الإيماني الصافي؛ واستنبات الولاء الوطني؛ والوصول إلى بوابات الحياة المتحضرة الجميلة.
وأحسب أن هناك مؤشرات إيجابية لبعض النواتج في تعليمنا اليوم على الأرض تتصدرها جودة التخطيط خلال أزمة «الكورونا»، وتُعدُّ من المكاسب التنظيمية والتشغيلية ومما يُحتسبُ مثالاً في إدارة الأزمات؛ وقد غادَرَنا العام الدراسي الحالي «عن بعد» والواقع التعليمي يحتاج عن قُرب إلى الغوص في متطلبات نهوضه حتى يتسق مع ما تنشده بلادنا وولاة أمرنا من تعليم متفرد في مخرجاته على مستوى التشريع والتنفيذ والمنهج والناقل التربوي (المعلم).
ولقد تمخض زمن (التعليم عن بعد) عن دروب جديدة في تحقيق مطلب أزلي يؤسس لجودة التعليم واتساقه وانسيابيته الطبيعية، وهو صناعة القرار التعليمي المشترك مع الطلاب وأولياء أمورهم، وهم المستهدفون الأولون؛ فاستثمار آلية التواصل (عن بعد) مع شرائح الطلاب وتطويعها لتمتين الدور الذي يجب أن يستمر مع الأسرة ولترقية الاتصال الفعال السريع المثمر بين بيئات الطلاب ومدارسهم، ولبناء المحددات والمعايير التي تحمل التعليم إليهم وفق فضاءات بيئاتهم ولا تحملهم للتعليم قسرًا دون شغف. وأجزم أن واقع التعليم عن بعد قد رسم بعض خطوطها، وعندما فقدنا الاتصال الشامل الممنهج المؤطر بين بيئات الطلاب ومدارسهم حدثتْ ثلمةٌ كبرى أدتْ إلى خلل في كفاءة المقدار المعرفي وتدني القدرة العقلية التحليلية لدى معظم الطلاب! والموضوع في عمومه خلل في كفاءة الواقع التربوي، حيث إن الغاية طلاب مثقفون مبتكرون؛ وفي ذروة السنام مواطنون صالحون، فالقرار المشترك مع الطلاب يجب أن يكون أولاً وقبل كل شيء منفتحاً على الفروقات النفسية والجسدية والاجتماعية بينهم، والتعليم عن بعد الذي فرضته الحاجة هذا العام كشف من خلال مخرجاته والتعامل مع نمطه التدريسي حزمة من الفروقات في البيئات الاجتماعية والنفسية للطلاب! فلماذا لا يكون منطلقًا لمنهجية جديدة لتحليل واقع الطلاب وتبويب متطلباتهم، فالتعليم لا يمكن مطلقًا فصله عن البيئة المجتمعية، فالبرامج التي تستهدف تجسير العلاقة مع أسرة الطالب ما زالت تجفل من الدخول العميق! كما أن البرامج الإرشادية التخصصية جرعات ما تلبث منابعها أن تجف وكثير عطشى، ومثال ذلك برامج الأسبوع التمهيدي في المرحلة الابتدائية ما زالت تحبو منذ عقود، فهلاَّ يُمدُّ ذلك الأسبوع الطارئ إلى فصل دراسي كامل يُدرس فيه واقع طلاب الصف الأول من تلك المرحلة دراسة علمية ممنهجة من المتخصصين في الإرشاد النفسي وخصائص النمو، ويكون الطلاب حين ذاك في مجموعات غير ثابتة ومتغيرة، ومن ثم يتم توزيع الطلاب على الفصول في بداية الفصل الثاني من العام ذاته وفق تلك الفوارق، ويُشرع في إخضاعهم لعمليات التدريس المناسبة، ويستمرون في الصفوف التالية إلى نهاية المرحلة وفق ذلك التصنيف، فالأطفال عقولهم محايدة وجاهزة للتعبئة، وحتى لا نستزرع المعرفة في أرض يباب لابد من تخصيب الأرض وتجويد قنوات الفكر المصدر إلى تلك العقول الكامنة خلف المقعد الدراسي لتكون قابلة للاستزرع، حيث إن قضية الاستماع للأمَام من الطلاب دون تصنيف «وقلوبهم شتى»؛ قضية لابد من إعادة صياغة شروطها من جديد، وفك طلاسم الوقت المقدس المسمى بالحصص، فمن الأولويات إعادة بناء الإرشاد الطلابي في المدارس ودعمه بالمتخصصين أكاديميًا مع تدريب نوعي شامل وتطوير صياغاته، فالإرشاد هو أوسع الأبواب لدعم المعلمين لكي يدعموا الطلاب! وقد حتم النمط التنظيمي (للتعليم عن بعد) أن يتخلص مخططو النظام وصانعو قراراته من البرامج التي كانت تزاحم ظروف التدريس دونما تأثير مباشر مشهود فلم يتأثر الواقع التدريسي مطلقًا، ولذلك ولأن التجربة خير برهان لابد من إعادة النظر فيما يُدفع به من برامج تبعد كثيرًا عن الانغراس الفعلي في ظروف التدريس المختلفة، وذلك لضعف تأسيس تلك البرامج أو لعدم واقعيتها ووضوح أهدافها، ناهيك عن اجترار بعض البرامج من خطط قد عفا عليها الزمان! وفي الحقيقة فإنه لا تنقصنا برامج فقد احتشد بها الميدان حشداً!؟ وما ينبغي هو إعادة الهيكلة الفكرية ودراسة شاملة لأصول تلك البرامج ومردودها المباشر واستبعاد ما لا يرجى نفعه وإن قل! فالمدارس أصبحت كحاطب ليلٍ ضجر تجمع ما يقع تحت يدها سواء كان يتوافق مع حاجات الطلاب أم لا!! والمهم أن لا تتهم المدرسة بالتقصير!؟ ونعني بظروف التدريس أفعال المعلمين والمحتوى المعرفي الذي ينقلونه للطلاب ونشاط الطلاب، وأسلوب نقل المعرفة أو ما يسمى طرائق التدريس، وقياس النتائج وفق المهارات المتحققة، ومراقبة تقدم الطلاب، فإذا ما أحيطت تلك الظروف بالعناية والتطوير المستمر فإن مهارة الاكتساب المعرفي وبناء المنظومة الفكرية المناسبة للتسبيب والحكم سوف تكون واضحة بعون الله! والمحصلة النهائية أن لا يعزل الطلاب عن واقعهم تحقيقاً لمشاركتهم الفاعلة في مفاصل التنمية؛ لأن نجاح النظام التعليمي يرتبط حتماً بالبيئة المحلية فالانتماء وقود للوجدان ومحفز للعقل، أما العنصر الخارجي فمساند وداعم.
كما ينبغي التعاطي الدقيق مع المبادرات الداعمة لعلاقات الطلاب واستثمارها، ولأن المدرسة هي بيت الطالب الثاني فلابد من صلة وتواصل مع بيته الأولى وأسرته من خلال إطار تنظيمي واضح وممنهج ومن خلال تخصيص وكالة في كل مدرسة لعلاقات الطلاب لتقوم بهذه المهمة التي تستحق قناة في الهيكل المدرسي لتكون منطلقًا لكل التطلعات نحو شراكة حقيقية عن قرب بإذن الله.