جميل هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك.
جميل هو الليل: أصداء بوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد.
وغابات ليل السُّهاد، الغيوم
تحجبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
وحده بدر شاكر السياب من يملك أن يصنع من الألم أغنية معجونة باللوعة، وممزوجة بالجوى؛ ذلك أنه حين يحكي عن الألم لا يكتفي بأن يطوف على ظاهره من آلام الجسد، بل يدرك قرار آلام الروح، فيلمسها بأطراف أنامله لمس المشفق المتطفل، يجس كيانها، ويميز بواعثها، ويحاكي مبتدأها، حتى يألفها ألفة الخدن الرفيق، يؤنسه طول ملازمتها، ويوحشه الغياب منها. فالوجع حين يضرب الروح لا ينشر فيها ألمًا مجردًا كما تفعل أوجاع الجسد، بل ينشر فيها حزمًا من المشاعر لا تنحصر في كلمات اللغة.. وجع الروح يتمخض ألمًا وأملًا واضطرابًا وسكينةً وذلةً واستغناءً ورضا ويقينًا وزهدًا وتسليمًا واحتياجًا ورأفةً وقهرًا وحبًا، وما يخطر أو لا يخطر على اللغة من سوى هذا وذاك. لذلك، حين هوى الألم من جسد السيّاب إلى روحه تمّكن من بلوغ نبوة البيان ببلاغة المعنى الذي ابترى ثقله بأبسط الألفاظ العربية، وبلا وزن ولا قافية.. فجاءت مجموعة «سفر أيوب» مخضرمة في فصاحتها، فلا تتوسل بناء الشعر وقافيته لتخلق وقارها، ولا تذعن لغرائب الألفاظ المتقعرة لتبرهن أنها قادرة على أن تكون معجزة لغوية.
لا يستخدم السيّاب في هذه القصائد الكثير من قوى الشعر وأسباب سلطته، إذ يبدو السياب وكأنه يرسم وهنه الجسدي على قصائد «سفر أيوب» بتبسيطها وتيسيرها على طريقة «السهل الممتنع».. فتجيء المجموعة عمودية بلا وزن ولا قافية، تحكي ببساطة مذهلة عن الألم. و تحكي بعمق مخيف عن الألم. فكل قصيدة من قصائد هذه المجموعة يمكن قراءتها بظاهرها البسيط الواضح، ويمكن قراءة فيض المعاني التي تستحضرها رموز القصائد وإشاراتها المتوارية.. وليس أهمّ من الرمز الذي جعله السيّاب عنوانًا لقصائد مجموعة «سفر أيوب». فأيوب ليس مجرد اسم علم، بل هو رمز مثقل بالمعنى ومحمّل بالدلالات، فلا يكاد يحضر لفظ أيوب على لسان إلا مرتبطًا بالصبر، بل بأقصى الصبر، إذ يصير «صبر أيوب» مصطلحًا يشير إلى أعلى قمة للصبر.
أيوب النبي، الذي تحضر شخصيته كنموذج للرجل المبتلى/ الصابر في الديانات الثلاث، يحكي الكتاب المقدس قصة رجل أنعم الله عليه بكل ما يتمناه إنسان، المال والولد والزوج الصالح والمعافاة في البدن.. كان الرجل شاكرًا ومستشعرًا النعم التي فضّله الله بها على كثير من خلقه؛ فتباهى به الله تعالى في الملأ الأعلى، وقال انظروا عبدي أيوب، يحسن شكري وذكري وعبادتي. فاعترض إبليس، وقال: أيا ربّ، إنك أنعمت عليه وأغدقت؛ فما يفعلُ ذلك إلا مخافة فقدان النعم وطمعًا في بقائها. فخذ منه ما أعطيته، وأبدله النعمة بابتلاء، وانظر كيف فعله. فأراد الله تعالى أن يثبت صلاح أيوب ففعل. وانتقل حال العبد الصالح من أحسنه إلى أشده، فخسر ماله، وفقد ولده، ومرض بعد عافيته، وظلّ شاكرًا صابرًا راضيًا.. يقول الله تعالى في القرآن: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} سورة ص 41.
كان من الذكاء أن يستخدم السيّاب رمزًا مثقلًا ومهابًا كرمز النبي أيوب، فبمثل هذه الرمزية.. يختصر الشاعر على نفسه وصف شدة البلاء وقسوة المعاناة، فلا يذكر لفظ أيوب إلا ويبعث في النفس معنى مركّب: معنى الصبر، ومعنى الابتلاء، وما بينهما من ارتباط. لذا، وبالتركيز على القصيدة الأولى من مجموعة «سفر أيوب» المكونة من عشر قصائد، نجد أن الشاعر لم يتكلف في وصف معاناة المرض وشدة الألم، بل اكتفى فقط بـأربعة أسطر من كل القصيدة، يقول فيها:
شهورٌ طوالٌ وهذه الجراح
تُمزّق جنبيّ مثل المدى
ولا يهدأ الداءُ عند الصباح
ولا يمسحُ الليلُ أوجاعهُ بالردى
السكوت عن الإسهاب في وصف الألم وصفًا محوريًا صريحًا في قصيدة كُتبت لتحكي أساسًا عن المرض والوجع والألم، كان عبقرية من السيّاب.. فلا أجلّ من المتواري، ولا ألذ من المختبئ وسط السياق، ولذلك آثر السيّاب أن يُحمّل قصيدته بالمعنى متواريًا خلف التشبيهات والصور المركبة، فمثلًا يستحضر الشاعر شخصية النبي أيوب بدلالاتها المتراكمة التي تشير إلى المرض والألم والابتلاء، فيقول على لسان أيوب، مخاطبًا الله تعالى:
لك الحمدُ إنّ الرزايا ندى
وإنّ الجراحَ هدايا الحبيب
أضمّ إلى الصدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب!
هداياك... مقبولةٌ، هاتها
هنا، الرزايا ندى، والجراح، هدايا.. من حبيب، مقبولة! يا الله! وهنا لا نملك إلا أن نسأل: كيف استطاع بدر أن ينحت معنى كهذا ليدلل على أكثر من الصبر، على الرضا والقبول بالقضاء والقدر حدّ التسليم، بل حدّ الحمد..
لك الحمدُ مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعضُ الكرم
تأدُّب الشاعر مع الله - جلّ اسمه وتقدّست صفته - مبهر وفاتن.. يقول ببساطة شديدة: إن المصيبات بعض كرمك يا الله. وتشبّع قصيدته بمعاني الرضا بالقضاء والقدر أخّاذ وجميل «مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم». هنا - مثلًا - تأتي لفظة «مهما» وكأنها تجرّ خلفها قبائل من معاني التسليم للقدر... وحضور الإيمان في القصيدة حضورّا متواريًا بهذه الكثافة وهذا الجمال يعطي القصيدة بُعدًا روحانيًا خلّابًا، فالله تعالى موجود، مسلّمة لا يحاول الشاعر إثباتها لشدة يقينه بها، وهو كريم.. كرم مطلق، فكل ما يأتي من الله تعالى هو شكل من أشكال الكرم الإلهي، ثم يأتي تذلّل الشاعر للإله تذللًا صوفيًّا محمّلًا بالعشق الإلهي:
أشدّ جراحي، وأهتف بالعائدين
ألا فانظروا .. واحسدوني!
فهذه هدايا حبيبي
وإن مسّت النار حرّ الجبين
توهمتها قُبلةً منكَ.. مجبولة من لهيب
فالله تعالى، المحبوب الأسمى، بلاءاته هدايا، بل هي هدايا ثمينة.. حدّ تصور الشاعر أنها مثار حسد الغير، ممن يشاهدون اصطفاء الله له وحده من بينهم، ليجرّب البلاء، وإن مسّت النار حرّ الجبين، لشدة الألم وارتفاع الحرارة، توهمتها قبلة منك، يا حبيبي! إنما مجبولة من لهيب.
وعلى أن السياب حين استحضر رمز أيوب في قصيدته ركزّ على ما يحمله هذا الرمز من دلالات قاسية للبلاء والألم والمرض وما سواهم من موجبات الصبر، لم يفوته أن يستحضر الأمل الذي يبعثه هذا الرمز من خلال خاتمة أيوب {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} الأنبياء 84، فتمسّك في خاتمة قصيدته بالرجاء فقال:
وإن صاحَ أيوب كان النداء
«لك الحمدُ يا راميًا بالقدر
ويا كاتبًا -بعد ذاكَ- الشفاءُ»
... ... ... ...
إهداء لوالدي أحمد القرني - حفظه الله -
** **
- حنان القرني