د. شاهر النهاري
أنا أعرف أن موضوعي غريب عجيب، فلن أحكي فيه بعض طرافات المدعو جحا، ولكني أريد الحديث بمنطق ورؤية عن كينونته، وجغرافيته، وشخصيته، التي أجمعت العصور الماضية على لماحيتها وطرافتها، وذكائها، بل وغبائها في مرات عديدة، غباء المعلم الذي يدني نفسه من ضحالة القاع، ويقفز على أسوار الحال، ليبلغ قيمة الفكرة، وكيف يمكن أن يكون هو الشيء، والمعنى، وما يقع ضدهما.
حقيقة كالخيال، بل إنه خيال كالحقيقة، فلم يتم الاتفاق على وجود شخصه بشكل مؤكد، ولا على زمانه وقدر حرية الرأي فيه، ولا على طول باله وتواضعه وتسامحه، واهتمامه بالمعاني الأصيلة، القريبة من هموم الشعوب، والناقدة للحكام، وقدرته الرهيبة على التحايل أثناء سماع الكلمات، وتقليب حروفها ومعانيها، والرد عليها بحكم عميقة متلبسة بالسخافة، التي لا يبلغ عمقها، من تعامل معها بفكاهة قشرية مفرطة، فكأنها تحتاج لعقول محنكين وخبرة فكاهيين وثقافة مستقبلية تطوي العصور.
في كل عصر ظهر لهم جحا، فلا نعرف من هو الأول الأصيل، ولا من هو التقليد الأخير، ومن منهم كان له الحنكة والبدء والحقيقة، ومن منهم ظل يقلد ويردد ما يسمعه من تراث، ولعله ومع كثرة شغف واحتفاء الناس بوجود من هو مثله، جعل كل أهل عصر ينسبون لصاحب الفكاهة واللماحية بينهم نفس المسمى أو اللقب الأخف، والأشهر والأكثر دلالة، على كل بادرة بسمة، وكل دقة انتقاء للمفردات، وكل حيلة محبوكة للهروب من مواجهة الواقع، والإبداع في تنوع الحوار، واستقلاب المعاني، وإعادة ترتيب الأفكار، وجعلها مفهومًا خاصًا وشائعًا يهدف للبعيد، ويستطيع الكل استخدامه كمفهوم عام، مهما تم تشويهه بالرواية والنقل، أو الربط بين الحكايات والخلط، أو اختلاق الجديد ثم التبرؤ منه عند الحرج، فلا حقوق تلزمهم للنقل، ولا جهات فكرية تمحيص وتتبع، ولا نص مرصود يحاكم على مصداقية الرواية والمرجعية، بل إنه يزداد تشعبًا وتشويهًا أو تضبيطًا بانعدام المخطوطات المؤكدة ومراكز التدوين الخبيرة، ما جعل ثقافة المشافهة تطغى، في أجواء كان التدوين فيها نوع من السحر، عند العامة، كونه يؤكد نسب الموروث كملكية لمن يستطيع لسانه أن يلوك الكلمات برشاقة وخفة، وأن يتمكن عقله من وضع الحكم والعبرة على كلماته، بتشجيع على كثرة السماع، وإبراز التميز الذي يهب الملسون قدرات عظيمة، للتأليف، والسرد والاختصار.
ثقافة منقولة، بالتوارث، على لسان مجهول يقال إنه معلوم، وبنصوص متفرعة متكاثرة متناثرة، تتفق في بعض خصالها، ولكنها تختلف في توجهاتها وفي تضادها، وغرابتها أحيانًا، ونفي بعضها لبعض إذا ما تم التتبع والمقارنة، بكونها يستحيل أن تخرج من عقل واحد حتى ولو اختلفت الأسباب المحيطة به.
تراث جمعي رث، يستحيل تصديق وقوعه بالصورة نفسها، وتصديق أنه نشأ من الشخص نفسه، فبحسبة بسيطة، ولو فرضنا أنه شخص واحد، فكيف تمكن من صنع كل هذا التراث العظيم المتراكم، الذي يحتاج منه لأعمار كثيرة، وليس لعمر واحد.
الأجواء العربية عرفت منذ عصور القدم برضوخ الفكر للسلطة، وخصوصًا في حال تسلط إحكام السلطة، وتفردها بشخص واحد، وحينها يصبح لزامًا على المفكر أن يتحايل، وأن يتقلب، وأن يظهر نفسه بمظهر المختل النفسي والعقلي، حتى يتمكن من قول ما يريد، وقتما يريد، وبطريقة تنعش الأنفس، وتطلق الضحكات، وهي تعالج الخلل وتظهره بوضوح أكبر، ودون مواجهة فعلية عنيفة مع السلطات، واستعداد دائم للتنازل، ولحس الحبر، وتكذيب النفس، والركوع المعنوي، أمام سلطة تكون عادة في حالات أمن ورخاء شديد، وتفرد بالأمر وبرؤية العدالة، وابتعاد عن حقيقة ظروف الشعوب وما يحيق بهم من أزمات ومعاناة ونقص، وإهدار للكرامة، ولعل ضحكة الحاكم اللاهي، ترد خطرًا كان قد قرره، فلا يقدم عليه، وقد تساعد محتاج أو مظلوم، بمجرد عرض حالته، بطريقة مكشوفة هزلية، لم يكن الحاكم ليقبلها لو تمسك بعزة صولجانه، وشعر بقوة جنوده من حوله، وصدعهم بأمره، فيكون الصوت الفكاهي أفضل من يرسل الرسائل عن بعد في المسار والقصد، والتي لو قيلت للحاكم بلسان حكمة صادق، وعقل يعي ما يقول ويبرز مواطن الخطأ، لما تقبلها، ولقلب السخط وشدده وسدده على رأس من رفع صوته دون طرافة تسمح له بالانكفاء على قدميه طلبًا للصفح.
جحا ليس إلا جزءًا من ثقافة الشعوب العربية، يتسامرون بحكاياته في المقاهي، ويغيبون بالضحك عن واقعهم، وقد يزيدون عليها أو ينقصون، دون خشية ممن يسمعهم، في ليالي سمرهم، وفي أحلك وأسوأ لياليهم، وتحت أعين من يتابعهم في كل مكان، للتأكد من أنهم لا يسيئون للسلطة، ولا ينتقدون من يقومون على تثبيتها.
هل كان لجحا دور بارز في صناعة الضحكة بين المجتمعات، وهل فتح للظرافة جامعة شعبية، وهل علم العقول كيف تختبئ، وكيف تتلون وتحتال، وكيف تكون حمالة أوجه، يمكن من خلالها في لحظات تغيير قواعدها، وقلب معانيها، ومقاصدها؟
هل ساعد على توطين الكذب بين الأجيال وخصوصًا الناشئة، ممن ولدوا في أجواء تعتيم، وخوف، وفرز للكلمات، ومن جعلوها مجرد طرفات؟
ورغم كل تلك الأسئلة، التي تحتاج إلى تحقيق علمي واستبانات من كل جيل، وكل منطقة، إلا أن جحا يظل متنفسًا للضعفاء، والمظلومين، ومعالجًا للمظيومين، وخالق مساحات الأمل المخادعة، التي تفتح أبواب النشوة بضحكة جميلة تستمر راقصة تداعب الفكر وتبشره بقادم أفضل، حتى تغمض العين الخائفة على آلامها، وتنام راضية بالذي كان، مهما كان، ومهما تعاظم، والعهدة على الراوي، ليس الأخير، ولكن الأول، وتتبع ذلك، ليس إلا ضرب من الخيال.
هل ارتقى الفكر العربي بوجود جحا؟ هذا أمر يحتاج لوجود الشريحة المغايرة، والمقارنة، ولذلك يصعب الرد على السؤال.