د. فهد بن علي العليان
أعني بذلك أستاذنا الدكتور محمد بن إبراهيم الأحيدب المتخصص في تعليم اللغة الإنجليزية وعميد كلية اللغات والترجمة بجامعة الإمام سنين عديدة، بالإضافة إلى أنه عمل عميداً لمعهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها عدة سنوات في الجامعة نفسها.
عرفته وتعرفت عليه عندما التحقت دارساً للماجستير في قسم علم اللغة التطبيقي عام 1413هـ، حينها كان عميداً للمعهد.
بدأت أنا ومجموعة من الزملاء الفضلاء -الذين أصبحوا أصدقاء- بالانتظام بالدراسة في الفترة المسائية ومنهم العزيزان (دكتور عبدالمحسن العقيلي، ودكتور محمد العنزي)، نلتقي كل مساء للدراسة في قاعات يحاضر فيها أعلام من متخصصي اللغة (عبده الراجحي، كمال بشر، عمر سعيد، علي شعبان، عبدالعزيز العصيلي)، على مدار سنتين كاملتين واسم عميد معهد تعليم اللغة العربية يتردد في ردهات مبناه في الجامعة بعد انتقالها للمقر الجديد، يتردد بسماحته وتعامله الراقي وابتسامته التي لا تفارق محياه حين تلقاه أو يلقاك، بل هو من يبدأ بإلقاء السلام والتحية بكل صفاء ونقاء.
أما الذين يذهبون إلى مكتبه، فلا أتذكر أن أحدهم خرج بغير مراده، إذ يخرج راضياً من المقابلة واللقاء، مقتنعاً بما يقوله (العميد) ولو لم يوافق مبتغاه؛ ذلك أن ( أبا إبراهيم) تشعر معه ويشعرك بأنه يسعى لمصلحتك ويريد مساعدتك بما يستطيعه، ومن هنا يخرج الجميع (أساتذة ومعيدون وطلاب) من مكتبه سعداء يدعون له بالتوفيق.
مرت أيامنا في الدراسة ننتقل من مقرر إلى آخر، وينتهي الفصل الدراسي الأول بحصولي على الترتيب (الثاني) في الدفعة، وأنا في وقتها أعمل معلماً في ثانوية حي الشفا بمدينة الرياض، فيطلب مني رئيس القسم أن أقدم أوراقي لطلب الانتقال للجامعة على وظيفة (معيد)، ومع بداية الدراسة في السنة الثانية يصدر قرار الانتقال للعمل معيداً في قسم علم اللغة التطبيقي؛ مما جعلني أكون قريباً في التعامل المباشر مع (العميد) الذي أدركت وقتها، وتأكدت أن كل ما يقال عنه -بعيداً عن المجاملة والمبالغة- يقصر عن الوفاء بحقه؛ إذ لحظت في كثير من المواقف أنه لا ينتصر لذاته أبداً، ولا يتباهى ــ (عمادته) مطلقاً كما يفعل كثيرون، بل هو قمة في تواضعه -الذي فسره آخرون بغير واقعه- وقمة في هدوئه الذي يجبرك على احترامه وتقديره.
انطوت الليالي والأيام، وأنهيت وزملائي الفصول الدراسية المقررة خلال سنتين حافلتين بالجد والمثابرة والبحث والدراسة، ثم وجدت نفسي أجلس أمام لجنة مناقشة إتمام الحصول على درجة الماجستير التي أذكر تفاصيلها كأنها قبل ليلتين أو ثلاث، أمامي المشرف على الدراسة (دكتور محب الدين أبو صالح)، والمناقش أستاذي الذي أحببته من كل قلبي (دكتور عمر سعيد) رحمهما الله تعالى.
وبعد أن أنهيت المناقشة أصبحت أعمل في القسم تحت توجيهات رئيسه (دكتور عبدالعزيز العصيلي) -رحمه الله-، حتى جاءت فكرة وجدت من المناسب عرضها على (العميد)، وهي التقديم على طلب الإيفاد للعمل في معهد العلوم الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام في (واشنطن)- الولايات المتحدة الأمريكية، وعندها سأختصر الوقت في مراسلة الجامعات للحصول على قبول لدراسة (الدكتوراه)، وسأتعرف على المجتمع والثقافة الأمريكية، فتوجهت لمكتب أستاذنا (أبو إبراهيم) وعرضت عليه الفكرة مستأذناً منه في تقديم الطلب على عميد المعاهد في الخارج، وهنا، أقولها للتاريخ ولشكره بعد شكر الله: إنني وجدت منه كل دعم وتشجيع بشكل لم أكن أتوقعه، لكنني كنت آمله، فقال لي: إن ما طرحته فكرة ممتازة جداً، وإذا كان هناك فرصة، فنحن سنوافق على ذلك.
وفعلاً، قدمت طلبي وكان هناك فرصة للعمل في قسم تعليم اللغة العربية لغير العرب في أمريكا، فوافق القسم، ومجلس المعهد بدعم عميده الذي لم يتوانَ في تذليل كل الصعاب، وفي شهر أغسطس عام 1995، ركبت الطائرة متوجهاً إلى أمريكا في (أول) رحلة خارج المملكة؛ ولأن الحصول على قبول في الجامعات الأمريكية يتطلب وجود (ضمان مالي) من جهة الابتعاث، فقد واصل (أبو إبراهيم) -مشكوراً- تسهيل الصعاب، إذ أعطاني ذلك داعماً ومسهلاً.
وصلت إلى هناك وانتظمت في التدريس، وواصلت البحث عن قبول لدراسة الدكتوراه، إلى أن حصلت على القبول من كلية التربية بجامعة أوهايو، فأنهيت مهمة الإيفاد وعدت للرياض أحمل ورقة القبول لبدء مرحلة الابتعاث، فتوجهت (للعميد) الذي لم تتوقف الأوراق في مكتبه يوماً واحداً، إلى أن انتهت كل الإجراءات لأحمل حقائب السفر مرة أخرى متوجهاً إلى مدينة (أثنيز) أتنقل بين قاعات كلية التربية خلال أكثر من أربع سنوات، ثم أعود عام 1422هـ، حاصلاً على الدكتوراه، حيث أقابل أساتذتي الفضلاء في الجامعة، ومنهم (الأحيدب) الذي أحمل له في نفسي محبةً وتقديراً، وله أفضال لا ينفع معها إلا الدعوات.
وخلال السنوات الماضية، كنت ألتقيه في الجامعة وهو يحمل ابتسامته المعهودة، ولم يزده تواضعه إلا رفعة في كل المواقع التي عمل فيها بالجامعة. وقد يتصور القارئ الكريم أنني أبالغ في الثناء على (العميد)الذي ارتحل وبقي (عميداً)، لكن القلم أمانة، وأنتم شهود الله في أرضه، ثم انقلوا عني أن (محمد الأحيدب) لما يزل في قلوب من عرفوه، ولا يذهب العرف بين الله والناس.
(المحبة.. أنت من يصنعها)