د.محمد بن عبدالرحمن البشر
محمد بن أحمد بن جبير الكناني البلنسي الأندلسي، وبلنسية مدينة جميلة في الأندلس، جملها المسلمون هناك وأخرجت الكثير من العلماء والشعراء والأدباء، قال فيها أميرها مروان بن محمد:
كأن بلنسية كاعب
وملبسها سندس أخضر
إذا جئتها سترت نفسها
بأكمامها فهي لا تظهر
وذلك لكونها تقع في وادٍ بين جبلين.
وابن جبير عالم، وقاضٍ، ورحَّالة، وجغرافي مشهور، ترك لنا كتاباً قيماً سماه « تذكرة بالإخبار عن اتفاقات الأسفار» وقد كتب كتابه هذا عام 582 هـ الموافق 1186م، وقد حفظ لنا الكثير من التراث والتاريخ في وصف البديع لكل ما حل به من بلاد ومكان، وما تخلل ذلك من أحداث.
عاش في العصر الموحدي، ولسبب من غير المناسب إيراده قرر الرحيل، فترك لنا هذا السفر الثمين، وربما لم يكن ذلك ممكناً لولا ذلك الحادث الذي وقع له مع أمير البلاد أبو سعيد ابن عبد المؤمن، فرب ضارة نافعة، وقد تألم من أمر ويجعل الله الخيرة فيه، فالخيرة دائماً فيما اختار الله.
ولرُبّ نازلةٍ يضيق بها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ومن ضمن ما وصف لنا في رحلته المباركة تلك، شهر رمضان المبارك في مكة المكرمة -حرسها الله- فيذكر أنه استهل هلاله ليلة الاثنين التاسع عشر من الديجنبر يعني ديسمبر، وهذا مألوف في المغرب العربي، ومثل ذلك شهر أغسطس، ففي المغرب العربي يعرب إلى غوت، ويذكر أن بداية الشهر قد وافق يوم الأحد.
في أول يوم من ذلك الشهر الكريم كما يذكر ابن جبير، يتم تجديد الحصر، وزيادة الشموع والمشاعل، لهذا فإن الحرم يشع ضوءاً، لكثرة تلك الشموع، وفي تلك الليلة تفرق الأئمة بناء على مذاهبهم، حيث إن لكل أتباع مذهب مقامه وإمامة، ويبدو أن الشافعية تمتاز عن سواها، ثم الحنابلة والحنفية، وكذلك الزيدية، وقد أوسع ابن جبير في ذكر المالكية لأنه مالكي المذهب، فذكر أنهم قد اجتمعوا على ثلاثة قراء، يتناوبون القراءة، وذكر ابن جبير أن ذلك العام أكثر شمعاً لدى المالكية، لأن تجاراً قد تنافسوا فجلبوا لمقام المالكية عدداً من الشموع أكثر، وأكبر، وقد لاحظ ابن جبير أن هناك شمعتين كبيرتين قد حفتا بالمحراب المالكي، وحولها عدد أصغر من الشموع، متميزاً بذلك عن غيره من المحاريب، ثم واصل ابن جبير إطراءه لما فعل المالكية، فقال إن جهة المالكية جاءت تروق حسناً وترمي الأبصار نوراً.
وذكر أن كل ناحية من المسجد تحفل بعدد من القراء، فتتداخل الأصوات، التي يطلقها القراء من كل زاوية، فيرتج المسجد من تلك الأصوات وتداخلها، لهذا فهو يرى أن مناظر الشموع المتناثرة في المسجد، وسماع الأصوات وتداخلها تخضع له النفوس خشية ورقة.
ويرى ابن جبير أن أغلب الغرباء يطوفون ويصلون في الحجر، وقد لا يحضرون معظم التراويح، لأنهم يحرصون على اغتنام الوقت، فليس في كل مكان أو زمان، يتاح الركن الكريم، والكعبة المشرفة، وقد رأى أن الشافعية أكثر الأئمة اجتهاداً في صلاة التراويح، كما أنهم بعد التراويح يطوفون بالبيت العتيق، ويقيمون تراويح أخرى بعد الطواف، ثم يعودون ليصلوا تسليمتين بعد كل واحدة منها طواف سبعة أشواط، حتى يكملوا عشرة أخرى، ثم يقيمون الشفع والوتر، بينما يصلي أتباع المذاهب الأخرى صلاة التراويح المعتادة، وعادة فإنه يتناوب على الإمامة خمسة من الأئمة أحدهم إمام صلاة المغرب ثم يتبعه الأئمة لصلاة التراويح.
والمؤذن يصعد الصومعة الشرقية، وينوه للسحور، ومعه قنديلان يحملانهما أخوان للمؤذن الزمزمي، وعند الفجر، يؤذن للصلاة، ويعودون بالقناديل، ويطفئونها، ثم يؤذن المؤذنون في سائر نواحي مكة المكرمة.
صادف وجود ابن جبير ذلك العام، قدوم الأمير سيف الإسلام طعتكين بن أيوب أخي صلاح الدين، إلى ينبع ومنها إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي الشريف، والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قدومه إلى مكة المكرمة، وكان حاكمها في تلك الفترة، مكثر بن عيسى، وقد دخل المسجد، وأخذ بالطواف حول الكعبة طواف القدوم، وإذا بمقدمه جند الأمير سيف الإسلام بن أيوب قد أخذت بالطواف ومزاحمة أمير مكة مكثر بن عيسى.
بينما هم كذلك إذا بهم يسمعون جلجلة، وأصوات مرتفعة، وإذا بعسكر كثير، يدخل المسجد، وما هي إلا لحظات حتى دخل المسجد الأمير سيف الإسلام، وسارع الأمير مكثر بن عيسى مسلماً ومرحباً، فطاف وسعى في هيبة، وخضوع وخشوع لله - عز وجل -، وشاركه جنده وقد دانت الأذقان للديان، وبلت الدموع الأسبال والأبدان، ثم سارع الشيبي لفتح باب الكعبة، وسقط منه المفتاح من الهيبة، وجعل يبحث عنه، حتى وجد بعد مدة.
لعلنا نأخذ اعتباراً سطره ابن جبير، فاليوم يعيش أهل مكة وزائروها في أمن وأمان، ولا بد لنا أن نشير إلى ما استطاع الإنسان أن يحدثه من ثورة علمية وعملية في القرنين الماضيين، مما جعل الطاقة الساكنة تتحول إلى طاقة متحركة فتضئ لنا الدروب والمساجد والدور، وتهيئ لهذا الإنسان أدوات ووسائل مريحة، بينما بقي آلاف السنين فيما مضى لم يحدث أمر مهم، سوى ما أحدثه من اكتشافه للزراعة بدلاً من الاعتماد على الصيد والالتقاط، وذلك قبل عشرة آلاف سنة في بلادنا العربية، وما عدا ذلك فلم يأت بجديد يذكر من الناحية العلمية، وأمر آخر أيضاً أن الإنسان في تنقله كان يستخدم ما يتاح من سفن تعتمد على سرعة الرياح واتجاهها، وأيضاً بعض من الحيوانات، مثل الجمل والحمار والحصان، فكان زوار مكة المكرمة وإمكاناتها محدودة، واليوم بفضل الله تعالى تفد أعداد هائلة من المعتمرين والحجاج، والزائرين ليتموا ما جاؤوا من أجله في راحة وأمان، وأمر آخر مهم، وهو وحدة المنبر والإمام الذي يؤم المسلمين من جميع المذاهب، دون تداخل في الأصوات والحمد لله تعالى.