أ.د.عثمان بن صالح العامر
أبارك للجميع دخول شهر رمضان المبارك وأسأل الله عزَّ وجلَّ كما منَّ علينا ببلوغ هذا الشهر الكريم أن يتقبل منَّا الصيام والقيام وصالح الأعمال.
القارئ الكريم: الليل والنهار مطيتان فأحسن السير عليهما إلى الآخرة، واحذر التسويف والإهمال، لا تعلِّق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب ولا تقرن بداية صفحة جديدة في سيرك إلى الله بموعد من الأقدار المجهولة فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير، الحاضر القريب الماثل بين يديك ونفسك التي بين جنبيك والظروف الباسمة أو الكالحة التي تلتف حواليك هي وحدها الدعائم التي يتمخَّض عنها مستقبلك فلا مكان لإبطاء أو انتظار ولا محل لتسويف أو إهمال، فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.
ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والآخر، أن يرسل نظرات ناقدة في جوانبها ليتعرَّف على عيوبها وآفاتها.. أن يقف معها طويلاً وهو يودع صفحة من عمره ويفتح صفحة بيضاء جديدة، وما أروع أن يتوّج هذا الإنسان عودته إلى ذاته ومحاسبته إياها برسم السياسات قصيرة المدى والمتوسطة والطويلة ليتخلص من هذه الهنَّات التي تزري به ويرفع عن نفسه مكامن الآثام الجاثمة على صدره.
في كل بضعة أيام ينظر الموظف والمعلم إلى أدراج مكتبه يرتب كل شيء، يعيد كل متحرك إلى وضعه الصحيح، يجمع الأوراق والقصاصات المتناثرة التي أدت الغرض منها ويرميها في سلة المهملات.. وفي البيت تحتاج الغرف والمجالس للمتابعة الدائمة والتنظيف المستمر من أجل إعادته إلى رونقه وجماله، وقل مثل ذلك عن المتجر والمخزن وحتى السيارة.. ألا تستحق النفس بعد كل مرحلة تقطعها من الحياة أن تعيد النظر فيما أصابها من غرم وما حصلت عليه من غنم من أجل أن ترجع إليها توازنها واعتدالها كلما رجتها الأزمات وهزها العراك الدائب على ظهر هذه الأرض في هذه الدنيا الهائجة!
إن الإنسان أحوج الخلائق إلى التنقيب في أرجاء نفسه وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك، ذلك أن الكيان العاطفي والعقلي للإنسان قلما يبقى متماسك اللبنات مع حدة الاحتكاك بصنوف الشهوات وضروب المغريات، فإذا ترك لعوامل الهدم تنال منه فهي آتية عليه لا محالة وعندئذ تنفرط قوى الإنسان كما تنفرط حبات العقد إذا انقطع سلكه وهذا شأن من {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، ولذا نصيحتي لنفسي أولاً ولكل قارئ لهذه السطور أن يقف مع نفسه وهو يعيش أول أيام هذا الشهر المبارك وأن يدوّن مثالبها بأمانة وصدق وأن يعقد العزم على البدء في عملية التصحيح في سيره إلى الله وألاّ يثني عزيمته وإرادته ماضيه الأسود فالله هو القائل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}.. وتذكر القارئ الكريم أن هذا الصنيع يفرح الله كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه فالله أشد فرحاً بتوبة المؤمن من هذا براحلته) رواه البخاري.
إن بداية شهر رمضان فرصة سانحة لأن يستشرف الواحد منا مستقبلاً أفضل، ومناسبة عزيزة لأن يجدِّد الإنسان نفسه وأن يعيد ترتيب ذاته من الداخل وتنظيم حياته من جديد، فرصة لأن يستأنف مع ربه علاقة أقوى وعملاً أكمل، فرصة لأن يطوي صفحة سُوِّدت ويفتح بيضاء نقية يبدؤها بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) ويقطع عهداً مع الله (اللَّهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). دمتم بخير، وتقبلوا صادق الود، وشهركم مبارك، وإلى لقاء، والسلام.