د. محمد بن إبراهيم الملحم
مازلت معكم في نظرة إلى كيف ننهض بتعليمنا من خلال الدراسة الأمريكية عبر الدول والتي استهدفت التغيير الذي أدى إلى تعليم متميز، وبعد استعراض ستة مجالات نستعرض سابعها اليوم وهو «جذب الأفراد المؤهلين جدا لمهنة التدريس»، لقد شدتني مفردة «جدا» في هذه العبارة، وأجدها متمثلة في دولتين من الدول المتقدمة تعليمياً قد حافظت باستمرار على نتائج متقدمة في الاختبارات الدولية وهي فنلندا وسنغافورة، فالأولى (فنلندا) لا توظف كمعلمين إلا من يحملون الماجستير التربوي، والأمر لا يتوقف عند الشهادة فقط، وإنما يمر المتقدم بإجراءات توظيف تضمن إلمام المتقدم وقدراته ومهاراته التدريسية، فمن كل 10 يتقدمون للوظيفة يتم اختيار واحد فقط. وفي سنغافورة تعتبر وظيفة «معلم» وظيفة جاذبة وتضاهي وظائف طبيب أو مهندس أو محامي سواء في عوائدها المالية أو مكانتها الاجتماعية. لم يحدث كل ذلك من فراغ، وإنما هو نتيجة اهتمام المؤسسة التعليمية والحكومات بمهنة المعلم وجعلها محوراً للتنمية وحراستها من دخول الشوائب وتصفيتها وترقيتها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم لديهم.
في مجتمعنا أفضل مكان يحلم به الخريج مثلا أن يعمل في شركة مرموقة تقدم عوائد مالية سخية ومزايا أخرى مثل شركة أرامكو مثلاً، وأعتقد أنه إذا جاء اليوم الذي يتمنى فيه الخريج أن يصبح معلماً أكثر من أمنيته أن يكون مهندساً في أرامكو أو ما يعادل ذلك، فإن تعليمنا يومها سيكون بألف خير.
عنصر القوة هذا كما تصفه الدراسة يقتضي أن يجتذب لمهنة التدريس خيرة الأفراد، سواء في تأهيلهم للتدريس أو في مواصفاتهم الشخصية وتوافر كاريزما التدريس لديهم، وهذا العنصر يمكن أن يكون هو رقم 1 بين المجالات كلها، ذلك أن المعلم المتفوق يمكنه تفادي أو تعويض نقص بقية المجالات سواء المنهج أو الوسائل التعليمية أو التقييم أو الإرشاد والتوجيه، فهذا معنى أنه أساس العملية التعليمية، فهو القادر على تطويع المنهج، وتجاوز مشكلاته، وهو من يوفر بدائل النقص في الموارد كالمختبرات والوسائل، كما أن عطاءه المتميز يلغي الحاجة إلى المحاسبية وضبط الجودة التي قد تحتاج إليها المؤسسات التعليمية للموازنة بين نقص الكفاءات وارتقاء الأهداف. كل ذلك لا يوفره أي معلم وإنما المبدع المتقن أو «القوي الأمين».
وعندما نقول هذه العبارة «جذب الأفراد المؤهلين جداً لمهنة التدريس» مبتدئين بالتعبير «جذب»، فهذا يعني أننا أمام مهمة من جناحين الأول هو توفير عوامل الجذب، وثانيها هو حماية مهنة التدريس من الاختراق، فأما عوامل الجذب فليس أولها الجانب المالي بل هو البيئة التنظيمية الجيدة، فلا يجب أن يشعر المعلم بالإهانة أو التهديد ممن يديرون العملية التعليمية فتوفر له البيئة التنظيمية السليمة ولا يشعر بها أيضاً من طلابه الذين يدرسهم (أو أولياء أمورهم)، ومهما انخفض المستوى الثقافي أو الاقتصادي لولي الأمر فلا يجب أن يمس المعلم، وهذا يستدعي أن تسن القوانين التي لا تحمي المعلم فقط بل وتحفظ له هيبة وكرامة وقيمة اجتماعية مميزة، يجب أن يشعر المعلم الذي يقوم بالتدريس في غير بيئته المحلية أو في مدرسة القرية النائية بنفس الشعور الذي يشعر به معلم أي مدرسة في أرقى أحياء المدينة، وهذه بالمناسبة ليست مهمة المدرسة أو وزارة التعليم في المقام الأول بل هي مهمة كل مؤسسات المجتمع المدني الحكومية وغير الحكومية، وأولها المؤسسات القانونية التي يفترض أن تحمي المدرسة فتسن لها القوانين الحافظة وتضبط فيها السلوك في الحالات التي لا يمكن للمؤسسة التعليمية أن تتدخل أو تعالج، هذا عامل جذب معنوي مهم يليه عامل الجذب المادي الذي أيضاً لا تمثله العوائد المالية في المقام الأول بل يتمثل أولاً في البيئة المدرسية الجميلة المهيأة المزودة بكل احتياجات العملية التعليمية والتي يستمر بهاؤها وجمالها سنة بعد سنة، بفضل حسن الإدارة وجودة الصيانة وحسن تدبير الأمور، ويلي ذلك الجذب المالي لمميزات المهنة من راتب ومكافآت وعلاج وما إلى ذلك من الجواذب الوظيفية المعروفة، وإن كنت رتبت هذه الجواذب في المرتبة التالية، مع إيماني بأهميتها فلأنها لا تفعل شيئاً أمام فقد العوامل التي قدمتها قبلها، ولا يوافقني في هذا الرأي إلا من يحب مهنة التعليم ويراها مجالا للإبداع، أما من يحبها لما فيها من فرص التفلُّت والراحة فهو يخالفني في الرأي طبعاً ويقدم المميزات المالية على كل شيء، فتأمل ذلك.
ثاني الجناحين اللذين أشرت إليهما هو حماية المهنة من الاختراق، وأعني اختراقها من العينة التي أشرت إليها آنفاً، وهم المعلمون الذين تردت مستوياتهم التعليمية في نتيجة التخرج من الجامعة فلم يجدوا إلا مهنة التدريس يمكن أن تقبلهم بهذه المعدلات المتواضعة فانضموا إليها، وخاصة لما تقدمه لهم من فرص التفلُّت والأداء المنخفض، وهؤلاء تضعف المؤسسة التعليمية أمام الضغط المجتمعي فتقلل معاييرها وتوظفهم، وليتها تدربهم بعد ذلك بل تتركهم يرتعوا في مدارسنا ويعلموا طلابنا بالحد الأدنى من مستوياتهم المتواضعة، فالخط رديء واللغة مليئة بالأخطاء سواء الإملائية أو النحوية أثناء الحديث والمعرفة ضحلة، وحتى إتقان المادة العلمية للكتاب المقرر يكون على حافة المقبول الذي يستر الوجه في كثير من الأحيان، وعودة إلى معايير التميز فلو كان كل معلمينا أفضل من هؤلاء ومستواهم «متوسط» لطالبنا بتفعيل ما تقول به الدراسة المذكورة من اجتذاب الأفراد المؤهلين «جداً» للمهنة، فما بالك إذن بوضعنا الحالي!
** **
- مدير عام تعليم سابقاً