د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
سنختلف حول تعريف «المثقف» من حيث صلتُه بالمعرفة والخُلق والتغيير؛ أيكونُ سمةً معلوماتيةً أم مواقف أخلاقيةً أم سلوكًا مع الآخر أم مقدرةً على القيادةِ الذهنية أم مزيجًا منها كلِّها أم لا شيءَ منها وأشياءَ سواها، أم هو لقبٌ مجردٌ كمعظم ألقابنا التي لا تدلُّ على أكثر من خِلعةٍ مدائحيةٍ كما تُخلع وسوم «المفكر والعالم والشيخ والأديب والإنسان» وما في فلكها من معطياتٍ أقربَ إلى أن تكون أُعطيات؟
** لعلنا نتفقُ على أن مثقف الأمس البعيد مختلفٌ عن مثقفه في الأمس القريب كما هما نائيان عن مثقف اليوم ومثقف الغد. ولا شكَّ أن الأدلجة تداخلت مع ثقافةٍ مضتْ فوسمت المثقف وفقًا لاتجاهاته السياسية، ومنهجه الإعلاميّ، ومدركاته المعرفية، وممارساته وطروحاته الجماهيرية، وفي زمننا الرقمي اختلطت الصوى فجمعت «باقِلًا مع سحبان».
** سنكون في حالٍ أفضلَ لو حررنا وسم «مثقف» من أيِّ ارتباطٍ دلاليٍ، واكتفينا بعرض مشروعاته كي تكتسبَ ما يلائمُها من أوصاف؛ فقد تكون هدرًا أو هذرًا أو بضاعةً مزجاةً أو نفثات نفسِ أو إفرازات بيئةٍ أو إلصاقًا والتصاقًا كالخادم بسيده والتابع بمن ارتضاه متبوعًا، ولا أسوأَ من هذه «التبعيّة» التي صار نجوم الأرقام يظنون أنها تزيدهم حضورًا وحبورًا.
** عرَّف محمد بن عيسى وزيرُ الثقافة المغربي الأسبق الثقافة بأنها المقدرة على المحاكمة والحكم لتعنيَ - في تفسيرنا - التكونَ والتمكن، والفهم والتفهم، وتجاوز المعلومة إلى انعكاساتها، والرأي إلى تأثيره، والفعل إلى انفعالاته وتفاعلاته.
** هنا يبدو العقلُ قادرًا على لجم الفكرةِ الهائمةِ التي يمليها وحيُ لحظةٍ تفرُّ من محكمة العلم والفهم والضمير والتنوير، وليس أبأسَ من استفزاز الوعيِ الجمعيِّ بما يُظنُّ فتحًا نحو الذرى، وهو سفحٌ باتجاه القاع، كما لا أيسرَ من عرض القضايا الوجودية على الفكر الغائم فيفتي في مسائلَ غيبيةٍ، ويناظر في مُسلّماتٍ قدَرية فلا يبحر آمنًا ولا يستطيع الرجوع.
** بات المثقف بحاجةٍ إلى من ينتقد نصّه لا شخصه؛ فقد كثر الموسومون بالثقافة وملحقاتها من غير تأصيلٍ يَميزُ فيه من يستحلُّها ومن يتسوّلُها، ولم تعد المنابر العامة معيارًا لمن يرتقيها أو يرتقي عبرها، وآن تحريرُه من أوهام نفسه وتهاوي درسه، واليقين بأنه مرقومُ ماء ما لم يضفْ إلى سِمَتِه سَمْتَه وإلى ما لا يُحسنُه صمتَه، وإلى نفي الواعظ والممثل من داخله.
** عانى مصطلح المثقف ويعاني من غربةٍ في مداده وخلط في امتداده؛ فقد وفد إلينا ولم نستضفْه، وعاش بيننا ولم نألفْه، وسيظلُّ في مرمى التفكيك والتشكيك؛ فالمثقف العضويُّ - وفق «غرامشي»- هو نفسه المثقف المؤدلج عند «فوكو»، وهو من حاكمه «إدوارد سعيد» في «خيانة المثقفين»، و»علي حرب» في «أوهام النخبة»، وعبدالإله بلقزيز في «نهاية الداعية»، وغيرُهم في غيرها.
** الثقافةُ لا تُسام.