م. خالد إبراهيم الحجي
إنّ الفجوة الواسعة والمتنامية بين النظام الرأسمالي الديمقراطي الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، والنظام الشمولي الدكتاتوري الذي تمثله روسيا، والنظام الشيوعي المركزي الذي تمثله الصين، تشكل بؤرة الاستقطاب في العالم، وهي سمة مميزة في الانقسام العالمي اليوم، وتعد «بذورًا سيئة»، لم نشهدها منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية؛ لأن البيئة التكنولوجية الرقمية التي يعيشها العالم اليوم، وتغذيها بذور الانقسام العالمي، وجدها قراصنة التكنولوجيا الذين ترعاهم الدول، والقراصنة من الهيئات الخاصة المرتبطة بالدول، والجماعات الإرهابية التابعة لها، والأفراد المأجورون، ميدانًا خصبًا للصراع الرقمي غير المسبوق الذي عمل على دفع حدود الأمن السيبراني إلى مستويات فائقة التعقيد؛ لذلك بادرت بعض الدول إلى اتخاذ نهج هجومي للأمن السيبراني، من خلال إطلاق العنان لقياداتها السيبرانية بهدف ضمان القيادة والأمن لها في المجال السيبراني، والحفاظ على جاهزية ردع الهجمات الإلكترونية، ومنع حدوث الأضرار. وبالفعل استطاعت العمليات السيبرانية المتطورة تغيير قواعد الاشتباك الذي يؤدي إلى حدوث المليارات من انتهاكات البيانات، والجرائم الإلكترونية والهجمات الرقمية..
إن عولمة التكنولوجيا تعكس بشكل متزايد التنافسات الجيوسياسية، ومن نتائجها أن «90 % من التطورات الجيوسياسية تسير الآن في الاتجاه الخاطئ»، والاتجاهات الاستقطابية هي الأكثر خطورة، ويواجه العالم بأسره مخاطر اقتصادية وأمنية وعسكرية، واحتمالات وقوعها يأتي من سياسات القوى الإقليمية التي تلعب على أوتار الحركات المذهبية والطائفية، والشعوبية والقومية، وتحولات التحالفات العالمية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتشرذم الأوروبي، وعدم استقرار المؤسسات السياسية الأمريكية، وتوسع الصين وتطورها الاقتصادي، والحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وتطور التكنولوجيا العسكرية الروسية بشكل متسارع.. كلها عوامل تعمل على توسيع الانقسام العالمي. وقد أدت الحروب التجارية والتوترات الاقتصادية إلى كسر العلاقات التجارية بين القوى العالمية، مما أدى إلى الشك وعدم الثقة. وتجسدت في اثنين من قادة دول العالم، الرئيس الصيني والرئيس الأمريكي؛ إذ يعطي كل واحد منهما الأولوية لتقوية اقتصاد دولته على حساب اقتصاد دولة الآخر؛ فمن جانب تستهدف الولايات المتحدة الصين «بفرض قيود على الاستثمار، وضوابط على التصدير وعقوبات مالية، وتعلن عن قرارات اتهام جنائية على الصين». وفي المقابل ترد الصين «بقوانين الأمن السيبراني وقرارات مكافحة الاحتكار».. ومنذ سبتمبر 2019 ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية أن «الولايات المتحدة الأمريكية فرضت تعريفات جمركية على أكثر من 360 مليار دولار من البضائع الصينية، بينما انتقمت الصين بتعريفات جمركية على أكثر من 110 مليارات دولار من المنتجات الأمريكية». والمعركة من أجل الهيمنة الاقتصادية تبقي الشركات العالمية على حافة الهاوية، وتزيد قلق الدول على مصالحها الاقتصادية، الذي يدفعها إلى اتخاذ إجراءات مشددة لتلافي المخاطر على أمنها الاقتصادي، من خلال رسم رؤية طويلة الأمد لتحقيق التقدم الاقتصادي والتطور التكنولوجي في خضم الانقسام العالمي.. رؤية تزيد على عشر أو عشرين سنة في بعض الأحيان، تشتمل على خطة جريئة، تعبّر عن أهدافها الطموحة، وتوقعاتها طويلة المدى المبنية على نقاط القوة والقدرات الفريدة لديها لتوجيه تطلعات مجتمعاتها نحو مرحلة جديدة من التنمية بهدف تحويلها من مجتمعات متفاعلة إلى مجتمعات نابضة بالحياة، يمكن لجميع المواطنين فيها تحقيق أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم للنجاح في اقتصاد مزدر. ومن هذه الدول المملكة العربية السعودية التي أنشأ وأسس رؤيتها الطموحة سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد -حفظه الله- وأبدع فيها بشكل خاص لتكون بيئة صانعة لفرص العمل، وتعمل على توسعة القاعدة الاقتصادية من خلال الاستفادة من الموقع الجغرافي للمملكة، والإمكانات الفريدة التي تمتلكها الدولة السعودية، وجذب أفضل المواهب، وزيادة الاستثمار العالمي.. وقد قال ولي العهد في تصريح له: «إن الذي يصنع الازدهار الاقتصادي ليس الدول وإنما المدن التي داخل الدول»، وهو ما يفسر الخطط الطموحة نحو إعادة هيكلة المدن الجديدة، والتخطيط والسعي نحو إحياء المشاريع التي توفر إمكانات واضحة للتأثير الاقتصادي، وجعلها تساهم في تنمية الاقتصاد، وجذب استثمارات عالية الجودة، والعمل على توظيف المواهب المحلية والدولية بما يتماشى مع الأولويات التي تناسب الدولة السعودية نفسها. ومما لا شك فيه أن الإعلان عن إنشاء مناطق خاصة لتكون مدنًا مستدامة في مواقع استثنائية وتنافسية، بناء على المزايا النسبية للمناطق الجغرافية والتضاريس الطبيعية في المملكة، مع تقييم جدواها الاقتصادية لتطوير قطاعات نمو جديدة، هي بالضبط ترجمة عملية على أرض الواقع لمقولة ولي العهد السابقة بأن المدن هي التي تصنع الازدهار الاقتصادي. كما حظي إنشاء مناطق خاصة للخدمات اللوجستية والسياحية والتنمية الصناعية والخدمات المالية بنفس درجة الاهتمام بالمدن الجديدة. ولم تغفل رؤية ولي العهد أن تأخذ في الحسبان رفع كفاءة نظام الدعم الحكومي، ووضع الخطط الدقيقة له، والاستفادة المثلى من فوائده من خلال إعادة توجيهه إلى المواطنين المؤهلين، والقطاعات الاقتصادية المستهدفة؛ لأنه -على سبيل المثال- غالبًا ما يؤدي الدعم الحكومي بدون معايير أهلية واضحة إلى عقبات أمام القدرات التنافسية، ولاسيما في قطاع الطاقة؛ لذلك ستعمل أسعار السوق الحرة على المدى الطويل على تحفيز الإنتاجية، والقدرة التنافسية بين شركات المرافق العامة، وفتح الباب أمام الاستثمار، وتنويع مزيج الطاقة بين المصادر الأحفورية الناضبة، والمصادر الطبيعية المتجددة، والسعي إلى وضع معايير دعم واضحة، تستند إلى نضج القطاعات الاقتصادية، وقدرتها على المنافسة محليًا ودوليًا، وحاجتها الفعلية للدعم دون تعريض القطاعات الواعدة، والخطة الاستراتيجية الشاملة للخطر.
الخلاصة:
إن المجتمع السعودي محصن ضد مختلف أنواع الاستقطاب العالمي بسبب اللحمة الوطنية بين الشعب والقيادة السعودية.