د.بكري معتوق عساس
في عامه الأخير خرج شاعر اليمن عبدالرحيم البرعي حاجًا، فلما قارب مكة، وهبَّ عليه النسيم رطبًا عليلاً معطرًا برائحة الأماكن المقدسة، غلبه الشوق فأنشد:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي/
هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي/
وَيَلُوحُ لِي/ مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا/
عِنْدَ الْمَقَامِ/ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي/ يَا نَائِمًا جَدَّ السُّرَى/
َرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ/
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتْ/ نَظْرَةَ سَاعَةٍ/
نَالَ السُّرُورَ/ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ/
تلك هي مكة في قلب كل مسلم، جنة روح، وشفاء قلب، وقرة عين، وسكينة جوارح.
بلاد يسكنها شرف المكان، ويعتادها شرف الزمان، وبها وفيها ولها يشرف الإنسان.
على أن مكة -عمرها الله- لم تكن مدينة روحية فحسب، بل هي مع ذلك مدينة عقلية، وحضارية.
لم تكن مكة مدينة للدين فقط، بل هي مدينة للدنيا أيضًا.
ولئن كان (تديين) مكة واجبًا أصيلاً، فكذلك (تمدينها) واجب أكيد.
ولذلك شهدت هذه المدينة المقدسة على مر تاريخها حركة حضارية لا تخطئها العين، وحسبك أن تنظر من آثارها المعمار الحجازي الذي شكل أسلوبًا مميزًا في تاريخ العمارة الإنسانية. وما يزال البيت المكي بمقعده ومجلسه ورواشينه ومشربياته وخزانته ومؤخره ومبيته ما يزال هذا البيت بصمة مميزة في التراث العمراني الإنساني.
ليس ذلك فحسب، بل شهدت مكة أول مشروع مائي في التاريخ، هو عين زبيدة.
وحدث بعد ذلك ما شئت عن مساجد مكة وآثارها ومبانيها، وقبل ذلك وبعده عن (حرمها) وما فيه من آيات الفن القديمة والحديثة.
وإضافة إلى (العمران) شهدت مكة حركة علمية ثرة، وحيوية تجارية مشهودة، ودبلوماسية سياسية فريدة.
ما أريد أن أقوله: إن مكة ليست عاصمة روح فحسب! بل هي عاصمة حضارة كذلك، ولذلك حق لها أن تكون أجمل مدن العالم.