عبده الأسمري
دخل شهر رمضان.. موسم العبادة وزمان الروحانية ومحفل السكينة واحتفال الطمأنينة.. قدم بخيراته ومسراته وابتهالاته التي تخرج النفس من دوائر «العناء» في الركض واللهاث خلف مهام الحياة ووراء التزامات الدنيا وتحت وطأة الظروف الحياتية إلى مصائر «الاعتناء» في سلوك التعبد وفي مسلك التهجد وفي انتظار بشائر الأقدار الربانية..
في رمضان منهج موسمي يعيد إلينا «الاتزان» التي زعزعته «شهور» الاعتياد.. جاء لينفض عنا «غبار» الروتين وينتزع منا «غمة» الأنين، ويعيدنا في رحلة مع «الحنين» السنوي إلى نهارات تعيد المسلم إلى سيرته الأولى، ومساءات تعرف العبد بمسيرته المثلى فتتجلى فيها أدوات «اليقين»، وتنجلي منها عوائق «السنين»..
لدينا أزمة أزلية واختلال ما بين الفكر الحقيقي والتفكر الواقعي في موازين العبادات والمعاملات.. فديننا منهجية متكاملة واعتبارية تكاملية تضع «العبد» بين كفتين من الاختبار، ترصد اتجاهات القلب وأبعاد العقل وأعماق الروح وآفاق النفس في صناعة «الخير» وصياغة «النفع» من خلال عبادة تضمن الثبات، وتعامل يتضمن الإثبات لتكون «الصحائف» ناطقة بالأثر ومستنطقة بالتأثير..
في خضم حياة مليئة بالعوائق ومكتظة بالعراقيل فإن الحلم والصفح والصفاء والنقاء والوفاء والتسامح لبنات أساسية ومكونات رئيسية واتجاهات مثالية لإقامة صروح «الأخلاق» التي تشكل المادة الخام لكل أقوال الخير وشتى أفعال الإحسان في مضامين العبادات وميادين المعاملات. يتقن العديد من البشر العبادات، ويسمو في إتقانها إلى حيث الإجادة، ويتجاوز ذلك إلى الإفادة من تلك الروحانية التي تعتمر قلبه وتغمر وجدانه.. ولكنه يبقى في «حيز» الأداء دون التوظيف الفعلي في متون «المعاملات» التي تؤكد ضرورة توجيه «الفرائض» إلى «المفترض» من حيث سلوكيات «التعامل» ومسالك «التكامل» بين الدين والمعاملة.
عندما يعلو صوت «الإنسان»، ويسمو نداء «الضمير» في داخل الشخصية المسلمة والهوية الإسلامية، فإن ذلك سينتج لنا «توازنًا واجبًا» و»اتزانًا مستوجبًا» بين العبادات والمعاملات في منظومة عيش يشكل فيه الإسلام معنى للقيم وقيمة للمعنى.. الذي يعكس «جوهر الدين»، ويوظف «نفائس التدين»، فالأسس تنبع من الصفات، والأركان تؤسس من السمات التي تجعل «المسلم» أنموذجًا للرقي، ووجهًا للارتقاء في شتى أبعاد الحياة وكل اتجاهات الدنيا.
عندما يتصف الإنسان بحسن الخلق فإنه قد يصل بذلك إلى درجة الصائم القائم.. وما بين الاثنتين فروق في الجهد وتباين في البذل.. ولكن المعنى الحقيقي يكمن في علو مرتبة الأخلاق في الدين، وسموها في قلب المعاملات، واستقامتها في قالب التعاملات في صفة توازي أجر العبادة وتحاذي ثواب الفريضة.
للتعايش بين الناس تداعيات وتجليات تحكمها التربية والتنشئة والتعلم والخبرة والتجربة، وتتشكل في إطار ذلك دوائر من البصائر والمصائر بين عرفان ملهم ونكران مؤلم وسط مواقف ينتصر فيها السواء، ويسقط فيها الادعاء.. وفي ظل وقفات ترفع من رصيد الأوفياء، وتشفع لواقع النبلاء، وتفرق بين متن المؤثرين وهامش الفارغين..
في التعامل تبرز الشخصية الفعلية للمسلم المعتدل القوي بعقيدته والوفي لسجيته وسط طبيعة بشرية تتشبث بالفطرة المتعامدة على العفوية والمعتمدة على الهوية وتتسلح بالوفرة المتصاعدة نحو الإنسانية والمتباعدة عن الأنانية حتى يشكل «تعاملاته» من عمق الموضوعية إلى أفق المنهجية ليكون فيها إما «صاعدًا» نحو قمة المآثر أو «منحدرًا» إلى هاوية الأخطاء..
«النسيان» في عالم «العرفان» مصير «محتوم».. ومنحنى مؤلم يضيع فيه «المعروف» في مستوى بشري، ويعلو في تصاعد رباني.. وهو حيلة «بائسة»، يلجأ إليها «الناكرون»، ولكن للأخلاق عبيرًا يتصاعد من أعماق السرائر إلى آفاق البشائر؛ لتبقى تذكرة العبور السحرية للدخول إلى العوالم المنسية؛ لتشكل مدى للاعتراف وصدى للإنصاف، وتظل الواجهة المثلى للتعاملات التي تنبثق منها كل مؤشرات الأفعال الحسنة والوقائع الجميلة.
نتطلع إلى اتزان بين عباداتنا ومعاملاتنا مع ضرورة اللوذ بخبيئة ترفع مخزون «الأجور»، والذود عن بؤس يشوه واقع «التعامل»؛ لتتحد مناهج الشرع مع مباهج العيش، ولتتكامل عطايا الاستبصار مع هدايا البصيرة من قلوب تحس بالغير وأفئدة تشعر بالآخرين تحت ظلال «إحساس» بالتآلف واستئناس بالائتلاف والمضي قدمًا عبر دروب الحياة بهويات «نافعة» وهيئات «شافعة»، يكون فيها «الإنسان» شاهدًا على الحقائق وصامدًا أمام العوائق..