د. حسن بن فهد الهويمل
الموضعة تفرضُ نفسها, لأن ذا العقل الحصيف يشقى بتفكيره في المطلق.
هذه الموضعة تَحُدُّ المطلق, وقد تُفقِده أزليته. العقل المستشرف للمطلقات تُفِيْضُ بذاتها إلى الشقاء المستطير:
(ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيم بِعَقلِهِ
وَأَخُو الجَهَالةِ فِي الشَّقَاوةِ يَنعَمُ)
لك أن تتصور (خالقاً) من خلال (اثنين) من مخلوقاته, أزليان: وجوداً, ولانهائيان حدوداً, وهما مع سعتهما, وتعددهما غير المحدود قبضته يوم القيامة: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.
هذا الخالق العظيم, لا يتورَّع العقل المُرْتَهَنُ لِحَواسِّه المحدودة, الخادعة, الكاذبة. إنها تفيض بمدركاتها إلى الناصية.
وكيف بها إذا كانت: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}؟.
الخائضون بهذه الإمكانيات المحدودة, لم يُقَدِّروا الله حق قدره: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.
كل جَرِيء يتعمد موضعة الذات, في ظل هذه الإمكانيات التافهة, لم يُقَدِّر الله حق قدره. شاء, أم أبى.
كُتُبُ التراث القديمة, والمعتبرة, ومؤلفوها, هم الذين اقترفوا خطيئات: التشتت, والعداوات, والبغضاء. وحملوا الأتباع على إراقة الأحبار على الصحف المشتتة المُضِلَّة, وسفك الدماء, بالأسلحة التي أهلكت الحرث, والنسل, وأزهقت الأنفس المعصومة.
ولما تزل تفعل فعلها بقلوب غُلْف, عليها أقفالها. لا ترحم صغيراً, ولا تحترم كبيراً, ولا تساعد حائراً, ولا تهدي ضالاً, إلا من رحم ربك, وقليل مَّا هم.
ومن يُلِمُّ بمحتويات كتب بعض علماء الكلام, لا يستغرب ما خلفته من مذاهب, وطوائف مُتَعصِّبة متطرفة يقتل بعضها بعضا.
لقد وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكفر, وأخبر بخروج مثل هذه الشراذم: (لا تعودُوا بَعْدي كُفَّاراً يضربُ بعضُكم رِقَاب بَعْض).
لقد عادُوْا من خلال الطوائف المتطرفة, والإرهاب الذي يسفك الدماء على الرغم من نَهْي العلماء عن موضعة الذات الإلهية: (تَفَكَّرُوا في آلاءِ اللهِ، ولا تَفَكَّرُوا في اللهِ).
هذا التطرف أُدْخَلَ في اللُّعَبِ القذرة, فَحُمِّل الإسلام, والمسلمون جرائره.
لقد ظهر الخلاف في وقت مبكر في عصر (الخلفاء الراشدين) ومن ثم حذَّر الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه من تناول المعضلات المضلات, وذلك حين قال: (حَدِّثوا الناس بما يعقلون, أتحبون أن يُكَذَّب الله).
الله سبحانه, وتعالى لم يَصِفْ الكون بما هو عليه بنص قطعي الدلالة, وإنما وصفها بكلمات حمَّالة, تتكشَّف حقائقها مع الزمن, بالتدريج, مراعية الإمكانيات الفكرية وقت نزول القرآن منجماً.
الله سبحانه وتعالى قال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون}. وهو يعرف حقيقة السباحة, ولم يصرِّح بعلمه, ويقول الشمس تدور حول نفسها, والأرض تدور حول الشمس, وحول نفسها, والشمس, والقمر, والأرض, وسائر نجوم المجرة تدور بذاتها, وحول نفسها, وهي كلها تسير بسرعة مذهلة إلى الأمام اللا نهائي.
مثل هذا لو صُرِّحَ به لأضل الأفهام, وأَزَلَّ الأقدام, وقد يَحْمِل على تكذيب الله, ورسوله. هناك طاقة فكرية, وإمكانيات ذهنية, تجب مراعاتها.
الآن, وبعد التَّقدمُ العلمي, وتوجيه القرآن الكريم للتفكر بآلاء الله, وتتابع النوازل, تكشَّفت الحقائق العلمية المتطابقة مع القرآن, وأصبح لدى الإنسان استعداد لتقبل الحقائق العلمية.
فآية {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود}. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور}. توجيه مرحلي للبحث العلمي, الذي مجاله المعامل, والمختبرات, والأدوات, لا الأقلام, والمحابر, لم يقصد علماء الأحكام الفقهية, وإنما قصد أولئك, ليجمعوا بين العلمين: العلم النظري, والآخر المخبري.
المصلحون الورعون العالمون من العلماء, بعثهم الله مجددين للدين, مؤمنين بكرامة الإنسان, وعصمة الضرورات الخمس.
وذلك ما تتبناه الدول المستنيرة, البعيدة عن التعصب. الأمة المتهالكة بحاجة إلى الوسطية, وقبول الآخر اضطراراً, لا اختياراً.
هذه الفئة من العلماء المدركين, الورعين تمقت التعصب, وتَحْذَر الآخرة, وتَعِفُّ عن الدماء المعصومة.
لقد حاولتْ تنزيه الذات الإلهية, وتفادي التَّضليل, ونجح بعضها, وأخفق البعض الآخر بسبب الظروف غير المواتية, إذ كم من عالم سبق زمانه, فأخفق رغم توفر الإمكانيات.
يأتي في مقدمة أولئك شيخ الإسلام (ابن تيمية) رحمه الله, ومن أحيا دعوته في حفظ جناب التوحيد المصلح (محمد بن عبدالوهاب) رحمه الله, ومن قبله (السفاريني) في عقيدته السلفية, و(الألباني) في الجرح, والتعديل, وغير أولئك كثير من علماء الأمة في مصر, والشام, والعراق, والمغرب العربي, ممن جنح إلى الوسطية, والتسامح, والتعايش.
ما يُطَمْئن أننا ما زلنا - والحمد لله- نعيش على بركة الأمة المنصورة, وإن كثر سواد الطوائف المتعصبة: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون}.