عبدالرحمن الحبيب
معدل دقة توقعات الخبير لا تختلف عن معدل التخمين العشوائي فضلاً عن توقع الإنسان العادي، أما الموهبة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها لدى الخبراء فهي مهاراتهم في سرد قصة مقنعة بقوة.. حتى بالمقارنة بين توقعات الخبراء ورمي الشمبانزي للسهام أظهر الخبراء معدلاً قلما يكون أفضل من أداء الشمبانزي. تلك خلاصة دراسة تاريخية مشهورة ممتدة منذ الثمانينات ومتفرعة حتى يومنا الحاضر جمع خلالها بروفيسور علم النفس فيليب تيتلوك آلاف توقعات الخبراء والأكاديميين والنقاد حول الاقتصاد والأسهم والانتخابات والحروب وقضايا أخرى، واختبر دقة تلك التوقعات..
تقول إحدى مراحل الدراسة التي بدأت في الظهور عام 2005 إن كثيراً من التوقعات لم يقترب من الحدوث مثل انهيار: كندا، نيجيريا، الصين، إندونيسيا، جنوب إفريقيا. العكس تماماً الصين تقدمت إلى الأمام في مقدمة دول العالم بينما انهار الاتحاد السوفييتي دون أي توقع من خبير! إلا أن هناك مجموعتين من الخبراء يمكن تمييزهما إحصائيًا: الأولى فشلت في أداء أفضل من الشمبانزي ولكن الثانية تغلبت عليه وإن لم يكن بفارق كبير. فلماذا كان أداء مجموعة أفضل من الأخرى؟ لم يكن الأمر يتعلق بما إذا كان لديهم شهادة دكتوراه أو الوصول إلى معلومات سرية؛ ولم يكن بسبب تفاؤل أو تشاؤم كان العامل الحاسم هو طريقة تفكيرهم.
أولئك الذين أظهروا مهارات ضعيفة في التوقع يميلون إلى تنظيم تفكيرهم حول الأفكار الكبيرة وحصر المشكلات المعقدة في قوالب جاهزة من السبب والنتيجة المفضلة لديهم. كانوا عادة واثقين ويؤكدون توقعاتهم، حتى أنهم يترددون في تغيير رأيهم عندما تفشل توقعاتهم بشكل واضح. أما المجموعة الأخرى فأفضل حالاً وأكثر براغماتية، إذ تجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات من أكبر عدد ممكن من المصادر، وتتحدث عن الاحتمالات وليس اليقين وتعترف بسهولة عند اكتشاف خطأ التوقع وتغير رأيها.
لماذا تفشل التوقعات؟ ببساطة، التوقع صعب ومعقد حتى للخبراء حسب إجابة دراسة تيتلوك مع أخذها بالاعتبار بأن التوقعات بشأن التأثيرات الاجتماعية لوباء كورونا كانت بعيدة عن التحقق حتى الآن.. ويحدد تيتلوك عددًا من العوامل، من أهمها الثقة المفرطة وإهمال المعدل العام، أي الميل إلى رؤية كل حدث على أنه فريد من نوعه على حساب النظر في كيفية حصول أحداث مماثلة في الماضي.
على نفس المنوال، حدد دانيال كانيمان وزملاؤه العديد من التحيزات المعرفية التي تدفع الخبراء إلى وضع توقعات سيئة، بما في ذلك المبالغة في التأكيد على دور الأحداث الجارية البارزة، والسرعة الشديدة في إصدار الأحكام، والبطء الشديد في تغيير رأيهم عند مواجهة الأدلة الجديدة. كما أوضح كانيمان ومساعده عاموس تفيرسكي في مشروع بحث حاصل على جائزة نوبل، أن توقعات الأشخاص العاديين ليست أفضل حالاً لأنهم يقعون فريسة لعدد من الاستدلالات والتحيزات في منطقهم.. إذ يميلون إلى أن يكونوا ضعيفين بشكل خاص في التوقع بمشاعرهم المستقبلية، أو سوء تقدير شدة ومدة ردود أفعالهم العاطفية تجاه أحداث معينة...
كيف يمكننا أن نصبح متنبئين أفضل؟ يشير تيتلوك إلى أن الأفراد ذوي التوقعات الدقيقة يستفيدون من المعلومات، ويفكرون بشكل مختلف عن الآخرين.. إنهم أكثر استعدادًا للاعتراف بعدم اليقين، والبحث عن وجهات نظر معارضة، وتحديث معتقداتهم في مواجهة الأدلة الجديدة. تشير الدراسات إلى أن طرق التفكير هذه تجعل الناس أفضل في التوقعات المستقبلية، وأن التدريب على أخذ وجهة نظر المراقب المنفصل يمكن أن تعزز احتمالية هذا النوع من التفكير. علاوة على ذلك، أظهر العمل الأخير لـتيتلوك ومعاونيه أن تدريبًا قصيرًا في التفكير الاحتمالي يحسن قدرة الناس على توقع الأحداث الجيوسياسية.. «إلى جانب تدريب أنفسنا على التفكير بشكل مختلف، قد نصبح أفضل من خلال الانخراط في ممارسة المزيد من التوقع. يجب علينا المحاولة والفشل والتحليل والتعديل والمحاولة مرة أخرى».
كما يؤكد بروفيسور علم النفس مايكل فارنوم، أهمية الممارسة، فالمزيد منها في عملية التوقع تعزز دقته. لسوء الحظ، يتم تدريب خبراء العلوم السلوكية والاجتماعية بشكل عام للتأكيد على التفسير أكثر من التوقع. وغالبًا ما تكون مثل هذه التفسيرات للظواهر بعد حدوثها.. في مجالنا، علم النفس، حتى عندما تكون التوقعات مسبقة، فإنها عادة ما تقتصر على نتيجة معالجة تجريبية معينة أو تحليل إحصائي لعينة الدراسة، ونادراً ما تكون من نتائج العالم الحقيقي. ببساطة، لدينا القليل من التدريب على كيفية عمل هذه الأنواع من التوقعات لنتائج العالم الحقيقي وممارسة قليلة للقيام بذلك.
لماذا تستمر التوقعات يومياً من الخبراء أو المشعوذين؟ الإجابة سهلة، بداية نحن بحاجة نفسية عند حدوث مفاجآت، لمن يحلل لنا ويتوقع وربما يطمئنونا أو يرعبونا (جذب الانتباه). لكن الأهم أن هناك مقابلاً مغرياً ينتظر صاحب التوقع إذا نجح، دون أي عقوبة لو فشل توقعه. ألم يعترف المبرمج المشهور آلن كوكس: «قمت بالكثير من التوقعات، الناس ينسون الخاطئ منها ويعجبون بالباقي». فأنت إن توقعت ارتفاع الأسهم بشكل مضاعف خلال سنة، فسيُحتفل بك لسنوات لو صح توقعك، أما إذا هبط السوق فلا أحد سيذكر.. لا أحد لديه الاستعداد لمتابعة فشل التوقعات!