د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
يدهشك الأستاذ القدير المبدع عقل بن مناور الضميري بعنوانات إبداعاته ومضموناتها، مثل (دوم زين)، وهي رواية كتبت عنها في هذه الصحيفة المباركة، وبينت علة هذا العنوان فهو «دعاء تردده والدته (بطل الرواية) «عساك دوم زين. عساك دوم زين». ولعل هذا العنوان يجمل رغبة قوية تعمر قلب الكاتب أن يتخلص المجتمع من بعض عيوبه التي عرض لطائفة منها عرضًا مباشرًا أو غير مباشر؛ ليردد لبلاده ومجتمعه دعوة أم نايف (عساك دايم زين)، وليس كدعوة الوالدين دعوة»(1)، وهاجس مدافعة الأستاذ عقل أدواء المجتمع نجدها أيضًا في قصته القصيرة (ترقية فوّاز)(2) فبترقية انتقل فوّاز من المدينة إلى قرية مغمورة وليس انتقاله مجرد ترقية وظيفية بل هو ترقية اجتماعية؛ ترقّى من أثرة المدينة إلى ايثار القرية، ومن كزازة المدينة إلى سماحة وكرم واتساع فضاء القرية، ليست ترقية وظيفية يفوز بها (فواز) بل ترقية نفسية وروحية، وهي ترقية لا تنال إلّا من هو فوّاز. وكذلك نجد الاتجاه نفسه والغرض عينه في (لا الناهية ولا التلقي)(3).
في اللاءات يبادرك بافتتاحية مميزة «لن تقرأ درسًا في النحو..! إنه في الإملاء»، ومن هنا المنطلق فليس الإملاء الكتابي ما أراد، بل هو «إملاءٌ قاسٍ، لا يبحث عن الإجادة في الكتابة، بل إجادة الاتباع». أي هو جزء من فنّ ترويض القطيع.
فأي لاءات تلك؟ إنها «لاءُ الشرطيّ ولاءُ المدرس، لاء البلدية، ولا المدير، لاءُ الأب، ولاءُ الجار، لاءاتٌ بلا نهاية أبدًا». إنها «لاءات من كل الجهات وفي كل الأوقات».
تتطاول هذه اللاءات بلاماتها وألفاتها وتصطف متلاحمة لتكون سورًا منيعًا حيث «استلاب الحرية، وأسّ الوصاية لما بعد البلوغ حتى المغيب».
وتقابل لا الناهية لا المتلقي للنهي، فيقابل لاءًا بلاء يراد بها «مكافحة الفساد وأشياء أخرى يعرفها الباغي والمحروم».
استدعت لاءات (عقل) إلى ذهني لاءات نعرفها في تراثنا العربي، لا الجوابية، ولا النافية ولا الزائدة ولا المحذوف لفظها المراد معناها، ولا العاطفة، وأما الجوابية فمثل «هل عندَكم شيءٌ؟. فقالت: لا»(4). وأما النافية ففي قوله تعالى )لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ((الكافرون)نفي لعبادة غير الله، وربما اجتمعتا كما في قول جميل:
لَا لَا أبوح بحبّ بثنة إنّها ... أخذت عليّ مواثقًا وعهودا(5)
والنحويون يعدون ذلك من التأكيد تأكيدًا لفظيًّا، قال الأُشْموني «أما الحروف الجوابية فيجوز أن تؤكد بإعادة اللفظ من غير اتصالها بشيء؛ لأنها لصحة الاستغناء بها عن ذكر المجاب به هي كالمستقل بالدلالة على معناه، فتقول: نعم نعم، وبلى بلى، ولا لا»(6)، وعدّ من ذلك قول جميل، ولست أراه كذلك فـ(لا) الأولى جوابية، والآخرة نافية وتواليهما عرض(7).
وأما الزائدة ففي قوله تعالى (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)) (البلد)، تعد (لا) زائدة، قال ابن قتيبة «وأما زيادة (لا) في قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) (القيامة: 1، 2).وقوله: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) (الانشقاق: 16). و: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) (البلد: 1): فإنها زيدت في الكلام على نية الرّد على المكذبين، كما تقول في الكلام:لا، والله ما ذاك كما تقول. لو قلت: والله ما ذاك كما تقول، لكان جائزا، غير أن إدخالك (لا) في الكلام أوّلا، أبلغ في الرّد»(8). وأما المحذوف لفظها لا معناها ففي قوله تعالى (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ (85) ) (يوسف)، قال الزركشي «وَحَذْفُ (لَا) فِي قَوْلِهِ: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ} أَيْ لَا تَفْتَأُ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلنَّفْيِ وَمَعْنَاهَا لَا تَبْرَحُ»(9). وأما العاطفة ففي قول امرئ القيس:
كَأَنَّ دِثارًا حَلَّقَتْ بِلَبونِهِ عُقابُ تَنوفَى لا عُقابُ الْقَواعِلِ(10)
وليست (لا) مفضلة في كل حين فهذا الفرزدق يقول في مدح زين العابدين عليّ بن الحسين:
ما قالَ(لا) قَطُّ إلّا في تَشَهُّدِهِ ... لَوْلا التَّشَهُّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ(11)
وإن تكن (لا) مرغوب عنها في التراث القديم فهي كذلك مرغوب عنها في لغتنا المحكية، إذ كنت أيام الصبا أسمع الناس يجيبون بالإيجاب بقولهم (نعم) وأما النفي فإنهم لا يقولون (لا) بل يقولون (ما لك لُوَى)، لأن تقاليد التربية تنهى عن استعمالها، فإن استعملها أحد قيل له (لُوَى) وهو دعاء عليه باللُّوَى وهو المغص، ولذا يجيب المجيب بقوله (ما لك لُوَى) أي: لا أصبت باللُّوَى، كناية عن الجواب (لا)، واللفظ كما سمعته بضم اللّام؛ ولكن الشيخ العبودي نص على فتح اللام فلعل هذا نطقه في بريدة قال «يقول الوالدان والأقارب من كبار السن للأطفال ونحوهم عندما يأمرونهم بشيء فيقول الطفل: لا؛ لياما للوى. أو يقول: (لَوَى). بمعنى أصابك اللوى يدعون عليه بذلك. و(اللَّوى) بفتح اللام والواو. ومن ع بارات المجاملة والملاطفة في مخاطبة الكبار وذوي الأقدار منهم قولهم في محل كلمة (لا): (ما لك لوى)، أي لا أصابك اللوى، وهو الداء الذي سبق ذكره. وذلك بدلًا من أن يقولوا له:لا، في النفي وليس في عدم الطاعة والإذعان. فإذا قال كبير القوم أو الأسرة لشخص منهم: أجاء فلان؟ فإن المسئول يجيب: ما لك لوى، بديلًا من أن يقول: لا، وذلك من باب التأدب، والتلطف به»(12).
وقد تأتي (لا) الناهية في سياق عتاب رقيق نجده في قصيدة ابن زُريق البغداديّ الذي اضطر لفقره أن يسافر للأندلس مخلفًا ابنة عمه التي أغرم بها، ولكنه لم يجد من ممدوحه سوى النزر اليسير فمات كمدًا، ووجدت عند رأسه رقعة دون فيها قصيدته المبكية الرائعة التي جاء فيها(13):
لا تَعْذُليهِ، فإنّ العَذْلَ يولِعُهُ ... قد قلتِ حقًّا، ولكن ليس يسمعُهُ
وجاء فيها يذكر فراقه لمحبوبته:
وكم تَشَفَّعَ بي أن لّا أُفَارِقَهُ، ... وللضّرُوراتِ حالٌ لا تُشَفِّعُه
فهذه لاءات مولعة موجعة؛ ولكنها ليست كلاءات المنع والحبس والاضطهاد.
- - - - - - - - - - - - - - -
(1) https://www.al-jazirah.com/2018/20180602/cm34.htm، أو ينظر: أبوأوس إبراهيم الشمسان، شؤون لغوية، ص217.
(2) نشرت في المجلة الثقافية، صحيفة الجزيرة:https://www.al-jazirah.com/2021/20210312/cm29.htm
(3) نشرت في مجلة الجوبة، ع42 أبريل، 2014م، ص 125.
(4) الألباني، مختصر صحيح الإمام البخاري، 1: 442.
(5) جميل بن معمر، ديوان جميل، تحقيق: حسين نصار، ص 79.
(6) الأشموني، شرح ألفية ابن مالك، 1: 205.
(7) ينظر: أبوأوس إبراهيم الشمسان، «شواهد نحوية» مسائل نحوية، ص 156.
(8) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص: 155.
(9) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 3: 215.
(10) حسن السندوبي وأسامة ميمنة، شرح ديوان امرئ القيس، ص 195. جاء في الحاشية: «دثار: هو راعي إبل امرئ القيس. حلقت: نزلت عليها من الجو. بلبونه: بنوقه التي يرعاها ويحتلبها. عقاب تنوفى: عقاب ساقطة من ثنيّة مشرفة ذاهبة في الهواء لارتفاعها. القواعل: الجبال الصغيرة». وانظر: البغدادي، شرح أبيات مغني اللبيب 4: 383.
(11) إيليا حاوي، شرح ديوان الفرزدق، 3: 354.
(12) محمد بن ناصر العبودي، معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة، 11: 350.
(13) ينظر: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري، مصارع العشاق، 1: 23.