د. فهد بن علي العليان
قرأت قبل أيام تغريدة نصها «في ترجمة ابن الرفعة الشافعي تـ710 هـ، عند الزركلي في الأعلام أن ابن تيمية لما سئل عنه، قال: رأيت شيخًا يتقاطر فقه الشافعية من لحيته»، وبعد القراءة تأملتها ثم أرسلتها (بالواتس) للصديق والزميل د. عبدالإله العرفج (أبو حسان)، الذي يعرف الزملاء والأصدقاء كما يعرف أهل الأحساء قاطبة أنه أحد رموز المذهب الشافعي الذين يشار لهم بالبنان ويستفيد الناس من علومهم ومعارفهم الواسعة.
وهنا، أريد أن أقول: هم قليلون أولئك الذين يتصفون وتجتمع فيهم مواهب متعددة، ويبرز د. عبدالإله العرفج بوصفه نموذجًا واضحًا للعيان تتحقق فيه هذه الميزة؛ حيث تخرج من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وأكمل دراساته العليا في جامعة أوهايو وحصل على الدكتوراه في مجال علوم الحاسب الآلي والتعليم الإلكتروني، بالإضافة إلى تميزه في مجال العلوم الشرعية حيث عانقه منذ اتصاله بحلقات العلم والعلماء في الأحساء عندما بدأ المرحلة المتوسطة عام 1397هـ؛ إذ إنه «من مواليد سنة 1385هـ في محلة الكوت من مدينة الهفوف في محافظة الأحساء، وهو سليل أسرة علمية عريقة في منطقة الأحساء، ولم يكن تميزه وبزه أقرانه في العلم الشرعي بغريب، إذ كان جده الشيخ (محمد العرفج) أحد أكبر علماء زمانه في منطقته، خصوصًا أن الدكتور عبدالإله على الرغم من تعليمه الشرعي القوي يُعدّ من الباحثين المهمين في تاريخ منطقة الأحساء التي عُرفت كمنطقة تمازج مذهبي واسع في المملكة».
لقد بدأت معرفتي بالرجل الكريم (أبو حسان) عندما التقينا في جامعة أوهايو حين جاءها مبتعثًا يكمل دراساته العليا في كلية التربية، فأصبحنا جيران لا يفصل بين بيتينا سوى أمتار يسيرة، فصرت ألتقيه في الخروج للجامعة وأحيانًا كثيرة في مسارات الكلية، بالإضافة إلى اللقاءات المتكررة في نادي الطلبة السعوديين الذي يجتمع فيه المبتعثون في إجازة نهاية الأسبوع حين يحضرون مع أولادهم، فكان صاحبنا يحضر بصحبة ولديه (حسان ومحمد) قبل أن يشاركهم (الصغير) أنس، الذي بقي نائمًا على صدر والده وقتًا طويلاً في الطائرة ونحن نتوجه من المملكة إلى أمريكا في إحدى الرحلات، ثم أصبح (كبيرًا) يسير في دروب الحياة.
في المركز الإسلامي في مدينة (أثينز) وفي النادي، كان (أبو حسان) يتقاطر علمًا وأدبًا وبلاغة، مع طرح هادئ مغلف بأسلوب جميل ومحيا باسم. في تلك السنوات بدأ أخوكم يجد في صاحبنا السماحة والهدوء وغزارة الطرح مع كثير من الاستشهادات الشعرية التي شدتني كثيرًا حتى أصبحنا نتبادل مع زملاء آخرين بعض القصائد ونتلوها في مناسبات متعددة. ومما يحمد له، أن علاقته بالزملاء جميعًا كانت تتحلى بالود والاحترام، وكان هو محل تقدير الجميع لثقافته الواسعة وتواضعه الجم وحسن تعامله ودماثة أخلاقه وتفاعله مع مختلف الطروحات بثقافة وحوار مستنير مع رحابة صدر وقبول للآخر، فلا غرابة أبدًا حين أراه هذه الأيام يقدم محاضراته في الجانب الشرعي ويطرح آراءه دون تعنيف أو تسفيه للآخرين.
بعد أن أنهيت الدراسة في جامعة أوهايو حاصلاً على الدكتوراه، عدت للمملكة قبل أن ينهي هو دراسته، فكتبت إليه رسالة، وجاءه عتابي لتأخره في الرد فجاءتني حروفه في قطعة أدبية راقية ورائعة يقول فيها:
«الأخ النبيل والسيد الجليل الدكتور المكرم والأستاذ المفخم أبو علي -حفظه الله-
سلام شذي كمسك الختام
على صاحب الفضل رفيع المقام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما قبل،
خيال سرى لي من بلاد بعيدة
لشد الأواخي والعهود القديمة
فالحمدلله على نعمة وصولكم وسلامة ذويكم ولقائكم أهليكم، أما بعد،
وصلتني أخبارك السارة -أوصلك الله لكل خير وأوصل لك كل خير-، ولعلك الآن وجدت منزلاً يليق بك، أما بشأن النسيان والقطيعة فكيف أنسى أيامكم العامرة ولياليكم العاطرة، ونحن لا يمر يوم أو يومان إلا وذكرناكم في مناسبة طريفة أو أبيات ظريفة أو نكتة على القلب خفيفة، وما انشغالي عنك إلا بك، كما قال الشاعر:
في كل جارحة عين أراك بها
مني وفي كل عضو للثناء فم
فإن تكلمت لم أنطق بغيركم
وإن سكت فشغلي عنكم بكم
هجرت كل طريق كنت أسلكها
إلا طريقا يؤدي بي لحيكم
وكل ما في الأمر أنني ما أحببت أن أطمئن عليكم بالإيميل، بل رغبت أن يكون عن طريق الهاتف، وكنت أتحرى الوقت المناسب، ولكن الأيام تمر بسرعة، عموما انتظر مني مكالمة قريبة قد تكون قبل قراءتك لهذه الرسالة».
وبعد أن أنهى (أبو حسان) مقرراته في جامعة أوهايو وحصل على الدكتوراه، أطلق زميلنا الغائب الحاضر د. فيصل القرشي أبياته الشعرية؛ ليقول عنه شعرا في حفل الاحتفاء بمجموعة من الخريجين :
أبو حسان ترب للمعالي
كمثل البدر في كبد السماء
له علم مؤصل شافعي
وآداب مهذبة البناء
ركب مع أ سرته الطائرة ، ورجع لأرض الوطن، ليعود لعمله الأكاديمي أستاذا يقدم المحاضرات في الجامعة، لكن ذلك لم ينسه عشقه القديم الذي بدأ معه منذ صغره وهو العلم الشرعي فواصل سيره ومسيرته يقدم محاضرات ويشارك في ملتقيات ويؤلف كتبا حيث أخرج مجموعة من المؤلفات وهي : مفهوم البدعة، والمناهج الفقهية المعاصرة، و الحياة العلمية في الأحساء، و الشيخ أحمد الدوغان مجدد المدرسة الشافعية.
استمر إلى هذا اليوم مؤديا واجبه الأكاديمي ومواصلا جهده في العلوم الشرعية، ومع ذلك لا يغيب عن اللقاء السنوي لخريجي جامعة أوهايو، فيحضر مشاركا بأحاديثه الجميلة ومداخلاته التي يشتاق لها كل الزملاء الذين عهدوه في سنوات الابتعاث. واليوم، وجدت قلمي يمضي للكتابة عن شخص وشخصية لهما التقدير في محافظة الأحساء، كما أن لهما المحبة في نفوس كل من عرف أبا حسان، الذي يلقاك بقلبه قبل أن تصافحك يمناه، حتى أن صديقنا المشترك د. حامد الشراري أعلن - مازحا- في تلك السنوات أنه يميل للمذهب الشافعي!. وهنا، أتوقف عن الكتابة لقناعتي أن ما كتبته يبقى يسيرا في مسيرة الفاضل (أبو حسان) الذي اجتمعت فيه مزايا كثيرة فضلا وأخلاقا وعلوم ومعارف متنوعة يدركها كل من التقاه وزامله وتلقى عنه، بل وحتى مخالفوه.
(القدوة .. تأثير)