عادت بي السنوات للأيام الغرية التي جمعتني به، ولعلي في هذه المقاله أستعيد بعض أجزاء منها. حينها كنت وصديق المَسرّات والفرح (عقل الضميري أبو ياسر) في المرحلة المتوسطة، واستمرت زمالتنا وصداقتنا معًا في (معهد المعلمين الثانوي) بالجوف.
كان مختلفًا حقًا بين كثير ممن زاملتهم أو صادقتهم وأعتز بصداقتهم. ذا سجية نقية، وفكر وثاب مُتقد. جنينا من قربه ووهبنا بكل سخاء وصله فوائد جمّة، والعلم النافع. لطالما حدّثنا عن قراءات كثيرة ومعلومات هامة في الكتب التي كان يجمعها منذ ذلك الوقت. وبلغة يفهمها من كان حوله ودون أن يُشعر أحدًا منا - حينها - أنه يحاول صُنع سُلمًا للبروز يرتقي من وراءه فضاءات أبعد - مثلما يتعمد أن يفعل البعض- من مسَارح جوفنا الممتدة، في محيط صحرائها والبساتين المحيطة بين بيوت الطين.. هذا ما كان يفعل (عقل الضميري) وديدنه النقي الناصع بالبياض والمتوسد في جوانبه الطُهر، جبلّة غير تصنعًا، منذ ذلك الزمن الذي جمعنا القدر سوية إلى لحظة الآنية. ذا خُلق رفيع وسمت، مَازهُ الوقار والأدب الجمّ الذي نشأ عليه، وترعرع به، هيبة واحترامًا وتقديرًا لدى الجميع سواء في المجتمع الجوفي أوفي المناطق والبلدان التي عمل بها خلال مشوار حياته العلمي والعملي..
وكم أسعدتني دعوة «الثقافية» لكتابة شهادة عن هذا العقل المتعقل رصانة في كتاباته صاحب رواية (دوم زين)، وهو الأبعد ما يكون عن الضوء، فيما هو انعكاس وسطه وفي جوانبه ومداه وأمديته، يلتمع في كل زوايا الفكر والمعرفة. يلج أفجاج الثقافة دالفًا، بين مصراع حقل وحقل، في كروم الأدب والإبداع من أشسع الأبواب، ويمر بهيبة عالم لا مُتعالم، متواضع لم يلج الكِبر سُلمة من سُلمات فكره المنضود، كلما ارتقى في الجوف زاد تواضعًا بين أهلها، مع المتعلم والأمي، والمثقف وغير المثقف، رجل العطاء و«معول» البناء في المناطق الشمالية.
عَمل الضميري، معلما بمحافظة (دومة الجندل) واستقال، ثم أكمل دراسته الجامعية، وعمل في معهد الإدارة، ثم في (مجلس التعاون الخليجي) إلى أن أصبح في مرتبة سفير مفوض قبل أن يتقاعد مؤخرًا.
رجل قيادي، مثقف، عندما تُسامره تخرج بفوائد جمّة، بعيدًا عن ثرثرة المجالس، يقرأ بنهم ويحب من يقرأ..
كما أنه يمارس هواياته التي أشك أنها إضافة لأهميتها البدنية - رياضة المشي والهايكنج والدراجة - إنما هي حصيلة تشكلت مع الهواية نتيجة حصيلة قناعاته القرائية التي شكلت نمطًا خاصًا في حياته جمعت بين غذاء العقل واستقرارها الداخلي، وبناءها الخارجي الذي يعتمد على التوقيت والنظام والممارسة الغذائية والرياضية - ولا أقول نادرًا ما تجد - كان هذا ما يميز عقل الضميري، عن كثيرين من جيلنا ممن أشغلتهم أساليب حياتية قليلة الفائدة أو عديمة. إنما كان عقلا منظمًا وقتها، محبًا حب للطبيعة، يهوى الطلعات البرية، ما صنع منه في منطقة الجوف: أحد ناشطي البيئة إضافة لنشاطة الاجتماعي البارز في المنطقة. وماز عقل، أنه ممن يمقت (النفاق أو المجاملة المبنية على ما يعرف محليًا «الهياط».
رجل منفق بسخاء، ويتصدق بخفاء، يحب أهل الخير والصلاح، وقد لا تحكم عليه بأنه منهم؟ إلا إذا عاشرته. ذلك أنه من الزاهدين في المشهد، من البعيدين كل البُعد عن فلاشات الصورة.
وما يلفت النظر وتجدر الإشارة إليه في الحديث عن الصديق الأستاذ عقل الضميري، أنه يحب الأسفار كثيرًا وقد زار معظم دول العالم، جائلًا بين متاحفها، ومعالمها التاريخية والحضارية.
فالإنسان لدى (أبا ياسر) هو من يعمل، وينتج، ويخدم وطنه وأهله ثم نفسه، لذا عُرف عنه: مقته للعنصرية القبلية، والرياضية والجهوية والمناطقية. وليعذرني إذ أنني متأكد أني سأظل مقصرًا مهما كتبت بحق هذا الرجل الشامخ الباسق الشاهق في منازله وعليائه، ومهما كتب يظل - عقل - أكثر وأشسع وأعلى منزلة والبون شاسع بين عقل، بتصرف :»وعقل زاده الإحراق طيبًا».
** **
- عبدالله المريح