لو تسنى لي أن أكتب بطاقة تعريفية للصديق عقل الضميري لقلت «هو ذلك القروي الذي غادر بلدته الصغيرة بجيوب محشوة بالحكايات والمزامير وعناقيد البلح ليعود إليها بعد أزيد من ثلاثين عاما هاربا من صداع وحشة المدن الإسمنتية فإذا به يفاجأ بأن التلفزيون قد انتهك عذرية القرية واحتل منصة الجدة الحكاءة ولم يعد المكان في مكانه. فانبرى يقلب أطلس الذاكرة بلا جدوى فالأماكن تتلاشى بوتيرة ما كما تتلاشى وحدات الزمن، وشرع يطوف حول بئر معطلة وحقول تغني على ذوائبها طيور شاحبة محاولا أن يلاحق كتائب النخل الهاربة ويجمع شقشقة العصافير من أعشاشها الباردة لكي يستعيد المكان حتى لو على حساب لحظته الراهنة لأنه يصر على محاولة نسيان ما قاله لوركا:
والآن لا أنا أنا ولا البيت بيتي!».
***
ثمة أكثر من سبب ومناسبة للاقتراب من عالم الصديق عقل المناور ربما كان أفضل هذه المناسبات الولوج من عتبة روايته (دوم زين) الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون.
العنوان يبدو للوهلة الأولى ملتبسا من جهة كونه لا ينطوي على إشارة واضحة للنص إلى حد اعتبار أن إثباته على غلاف رواية كان مغامرة قد تفضي إلى صرف القارئ الذي عادة ما ينقب في العناوين التي تثير الأسئلة والفضول. لكن ما أن توغل في قراءة الفصول حتى تساورك الشكوك بنوايا الكاتب الذي كانت غايته من مألوفية العوان أن يثير شهية القراءة من خلال الرهان لا على ما يشي به العنوان جريا على العادة بل على ما لا يشي به.
من بداية الفصل الأول حتى ما قبل الصفحة رقم (14) يعد استهلالا ومقدمة لأحد مفاتيح النص الذي بدأ بجملة جاءت على لسان (علي) أحد شخوص الرواية ردا على زميله:
(أوه .. الحمد لله، أجل هذي السالفة. يا شيخ خوفتني! لكن زين أنك أثرت هذا الموضوع، يارجل أنت اللي جنيت على نفسك وولدك.. أحد يسمي ناكر؟ تريدني أناديك: أبو ناكر؟ والله إني أستحي، بل أتحسر على ابنك في المدرسة وعند أصحابه، صاير له هالاسم غصة بل نقيصة.. ما لقيت إلا هالاسم. طيب لو كانت الأسماء بفلوس، بماذا تسمي أولادك؟ لكن أتعرف؟. سوف اشتكيك يابو ناكر لدى إدارة الأحوال المدنية؟.
ويبتدئ الفصل الأخير بهذه الجملة: «لم تكن عودة نايف إلى بلاده هذه المرة مشابهة للمرات السابقة، إذ عاد ومعه طفلان توأمان جميلان هما السعادة القصوى له والألين، وكان مما أدهش نايف تنازل زوجته عن حقها في المشاركة باختيار اسميهما، قائلة: أثق بكل ما تفعل اختبرتك كثيرا فلم تخذلني مرة واحدة...).
هذه المفارقة هي التي أود - في هذه العبور السريع على الرواية - أن أشير إليها. سؤال الاسم هو أكثر ما يشغل الكاتب باعتباره أول جرح يصاب به هذا الكائن القادم من العدم، أول قفل يقيد الجنين القادم للحياة منزلقا مع صيحته الأولى بعد ذراعي القابلة وربما هو أول وصمة عار لا يمكنه الفكاك من تبعاتها طوال وجوده، والإشارة التي لا تني تذكره كلما أخذه النسيان إلى فنائه.
والكاتب يكتفي بالإشارة بطريقة احتجاجية واضحة إلى أسماء الشخوص والأمكنة والمدن بما يحيل إلى سؤال الوجود نفسه. هل نحن موجودون في أسمائنا؟ ولماذا توسم الأعلام بهذا الوشم. وما التداعيات التي يطبعها الاسم على الأعلام أمكنة وأشخاصا بيد إنه لا يقف على فعل التسمية ولا يضع هذه المسألة في مختبر الفلسفة. لكنه عوضا عن ذلك ينتقم معنويا بذلك الحضور غير المعتاد للسيدة أولين.
قد تعثر على (أنا) الراوي في شخصية (أبي فهد) الذي بلغ به الاحتجاج على اسم زميله وخصمه في الوقت نفسه أن يتقدم ضده بشكوى لإجباره بصورة كاريكاتورية على تعديل اسم ابنه الأمر الذي انتهى إلى فشل قضيته بسبب علاقة المسؤول بأبي ناكر في إشارة عابرة إلى تفشي الفساد الإداري.
الحوار هو العمود الفقري للرواية فلا يكاد يخلو منه فصل من فصولها بل إن بعض فصولها تقوم على الحوار. وهو أحد الأنماط الذي يغني - عندما يتقن الكاتب إدارته - عن الإسهاب والتوصيف والمبالغة في السرد فضلا عن إشراك القارئ وإحداث الحركة في النص. وقد أحسن الكاتب في اختبار لغة الحوار والمرواحة بين اللغة الفصيحة لا الفصحى والمحكية البيضاء التي تتيح للقارئ فهمها بيسر وسهولة.
الرواية تصور الواقع تصويرا فوتوغرافيا لكنها تقف على مألوفه وتلامس الدمامل المنتشرة في الجسد الاجتماعي بأسلوب بريء من الحذلقة والبلاغة الزائفة والتزويق.
***
أظن أن أهم العوامل التي تضافرت لكي تطبع شخصية الرواية بهذا الصورة: النزوع الرومنسي لدى الكاتب إلى الطبيعة، و شعوره الفادح تجاه الواقع الفطري الذي تمت خيانته وتشويهه على مدى سنوات الطفرة، والحنق على أغلال العمل مع لغة الأرقام التي قيدت روح الشاعر الذي نسي الغناء في مكان ما، الحنق الذي بلغ منتهاه إلى حد أنك تسمع صوتا باطنيا يتسلل من داخله: سأكتب حتى لو لم يتسن لي إلا الضرب على الآلة الحاسبة.
** **
- عبدالرحمن الدرعان