يبدو أن نظريات (جوستاف لوبون) ورؤاه لا تزال صامدة في توقعاتها وتحليلاتها لسلطة الجماهير وتأثيرها، وإن اختلفت السياقات وظروف الحالات، وذلك بداية من وصفه لتركيبة للجماهير النفسية والعقدية، وما فيها من صفات أبرزها قلة الملكات الفكرية، فيسهل توجيهها والسيطرة عليها، وذلك بسبب انعدام التفكير الفردي، وصولاً إلى تقسيمه للجماهير حسب توجهاتها وأغراضها، حيث لا تزال هذه النظريات والآراء وما تفرع عنها قابلة للاستعمال والتطبيق.
بنظرة سريعة على الثقافة الغربية بصفة عامة – والأمريكية من ضمنها – فإن من المعلوم أنها قائمة على قواعد فكرية قديمة وراسخة متفق عليها منذ أزمان الثورات العلمانية على الكنيسة، وذلك فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير عن الأفكار دون شرط أو قيد، مع اتفاق ضمني بعدم فرضها على الناس، ولكن هذا الأمر الراسخ والمتوارث مشكوك في مدى قدرته على مزيد من الصمود، فمنذ بداية الألفية الجديدة، بدأت هذه القواعد بالتعرض لاهتزازات كبيرة توحي بما سيكون عليه مصير هذه القناعات في المستقبل القريب، وذلك بسبب عوامل كثيرة يأتي في مقدمتها صعود أحزاب اليمين الأوروبية، واتخاذ تيار اليسار الأمريكي التقدمي مساراً أكثر تطرفاً.
وترجمة هذا على الأرض أن اليمين وأغلبيتهم من البيض مستاؤون من الوافدين عليهم من مجموعة البلاد البعيدة بثقافات غريبة عليهم لا يفهمونها ولا يستطيعون استساغتها، وأن هؤلاء الأغراب ذوي الثقافات غير المألوفة لهم يهددون قيمهم ونمط معيشتهم الهادئ والمستمر منذ مئات السنين، وعلى الطرف الآخر ذلك التيار اليساري التقدمي الذي يرى أن الأرض مشاعة، وأن الأوطان تبنى بمن يعمل ويجتهد، وليس للدولة المغلقة على أهلها معنى، كما أنه ليس للثقافة المختلفة والمتفردة عن غيرها معنى أيضاً. وكل هذا الخلاف الدائر يغذيه وينميه مجال الحرية الديموقراطي الذي لا يمنع أحداً من عرض رأيه أو نشر أفكاره، ولكن المشكلة دائماً أن الآراء تتحول بعد ذلك إلى (أيدولوجيا)، ثم تترجمها الأفعال، وغالباً ما يكون العنف هو قرين هذه الأفعال.
تعني ثقافة الإلغاء cancel culture في أيسر تعريفاتها أن يقوم مجموعة من الناس المعترضين والمكونين لجمهور من الناس بمهاجمة شخص خالفهم في رأي ما، مع الغلو في الخصومة حد المطالبة بإلحاق الأذى بهذا الشخص المخالف لهم في الرأي فقط، وذلك بغية الوصول لإلغائه وطمس نشاطه، وإيقاف تأثيره بصورة كاملة، ليكون بهذا إلغاء لقوة مخالفة أو صوت ورأي لا يتفق ورؤية هذه الجماهير المتفقة فيما بينها على نقطة معينة.
وبهذا يتحول الحوار وتبادل الرأي والإثراء بالأفكار المختلفة والمخالفة إلى معركة تهدف فقط إلى الإجهاز على من يخالف، وذلك في سبيل أن يعيش الصوت الواحد، وكل ذلك يتم بطرق شتى ليس فيها شيء ألطف من شيء، فهي تشمل التهميش، والاستهزاء، والانتقاص، والتجاهل، أو الغضب والفجور في المعارضة والخصومة والمطالبة بمعاقبة هذا المختلف المخالف، إما باستدعاء واستعداء سلطة القانون والدولة، أو الذهاب إلى منطقة أكثر تطفاً، وذلك بالطلب من جماهير الناس أن تحقق العدالة المزعومة بنفسها، وذلك كله في جو مشحون ومتوتر، يسوده التوجس، ويهدف فقط إلى ما يُتوهم أنه انتصار، ويغيب عن هذا كله قيم ومفاهيم المنطق القائم على وجوب الدفاع الواجب عن الرأي المخالف واحترامه.
وفي مثل جو الاختلاف والمخالفة هذا، فقد منح (الإنترنت) ممثلاً بآخر صوره – وسائل التواصل الاجتماعي – البيئة الخصبة لممارسة هذا الإلغاء، بل بأسرع صورة وأسهلها، فلم تعد تحتاج الجماهير الغاضبة من شخص أو فكرة أن تخرج إلى الشارع أو تنظم المسيرات الطويلة المحتشدة الآكلة للوقت والمستغرقة للمساحات، والمعطلة لسير الحياة اليومية ثم الاصطدام بقوى الأمن إن اضطروا، بل يكفي مجموعة معدودة من الأشخاص أن يقوموا بالأمر افتراضياً في واقع موازٍ ولكنه شديد التأثير في الواقع الأصلي، وبعدد قليل من المتفاعلين، ولكن يحسبه الغافل جبلاً، فشخص واحد غاضب من تصرف أو فكرة لم تعجبه لشخص آخر، يستطيع أن يؤجج ويحشد الرأي لاعتراضه، ثم يقود هؤلاء المعترضين لمطالبات متطرفة بشأن من يختلفون معه، وذلك في صورة مؤسفة لغياب المنطق وأسس الحوار والاختلاف أو تقبل الآخر في رأيه غير الموافق.
والظاهرة قديمة، ولها شواهد من عصر المذياع والتلفاز والصحف السيارة في الولايات المتحدة، ولكنها لم تكن بهذا السعار وهذه السرعة، فتلك الوسائل إذا أرادت شيطنة شخص أو كيان ما، فإن ذلك كان يستغرق فترات زمنية طويلة وميزانيات كبيرة مرصودة، وقد لا ينجح المشروع، لكن الأمر الآن اختلف، إذ يكفي أن يعبر شخص ما عن رأيه البسيط، ثم يغلق هاتفه لساعات، وربما يكون قد نسي ما تحدث به أو عنه، كي يجد فجأة أن الدنيا قد قامت عليه ولا تنوي القعود حتى تلغيه وتنهيه. بل لقد أصبحت قنوات التلفاز والإذاعة تحذو حذو منصات (الإنترنت)، فتكثف حملاتها على شخص ما أو توجه فكري بعينه بصورة مكثفة، مستفيدة بذلك من مساحة البث المتصلة، فتستخدم سلاح التكرار للإقناع، وذلك في صورة مؤسفة لما يكون عليه تحول مؤسسة إعلامية من المهنية والحياد إلى سيطرة الأفكار الأحادية والتوجيه ذي المسار الرافض لكل مخالف في الرأي. وبهذا فإن هذه الوسائل تتحول من موقعها في نقل الحدث بحيادية ومهنية، إلى صانعة له بالتأجيج، وزيادة الاحتقان حوله بشتى الوسائل، حتى لو لم تقع كثير من أحداثه منذ الأساس، وذلك تحقيقاً للشطر الشهير: «وما آفة الأخبار إلا رواتها».
ومن المعلوم أن موجة الغضب هذه بدأت تتزايد على (الإنترنت) بصفة خاصة منذ عام 2017، وذلك لهدف نبيل، وغاية عادلة، حيث بدأت بالازدياد ومزيد من الظهور بعد فضائح الانتهاكات الجنسية التي اجتاحت مجتمع (هوليود) والتي لم يُتخذ فيها إجراءات عقابية رادعة، فاتجه الناس بفعل خيبة أملهم إلى (الإنترنت) للتعبير عن غضبهم والتنفيس عن احتقانهم، وليؤدي هذا إلى الغرض منه، وهو الأمر الذي جعل كثيراً من المشاهير يخرجون من (هوليود)، ولكن هذا شأن البدايات، تكون ذات نوايا صافية وغرض نبيل، ثم يتعلق بالموجة من يتعلق، ممن لهم أطماع وتصفية حسابات وما شابه، ولتتوسع بذلك الموجة، ثم تنحرف تماماً بعد ذلك عما بدأت به، ليصبح كل مخالف لرأي مجموعة من الجماهير هدفاً للسهام، ويبدو أن هذا قدر كل دعوة بريئة وفكرة نبيلة، حيث يأخذها تجارها إلى المناطق المظلمة، حيث إن لكل فكرة مهما كانت نبيلة وجهان، أحدهما شديد القبح.
وقد بذل كثير من وجوه المجتمع الأمريكي ومثقفيه وعلمائه جهوداً حثيثة للتوعية بمخاطر هذا الأمر، وأن هذا الاتجاه المتطرف في الاعتراض على المخالف واستغلال الجو الحر والديموقراطي سيؤدي إلى عواقب وخيمة تنتهي بالصوت الواحد المضاد للعملية كلها من الأساس. ومن أشهر هذه الجهود الرسالة الشهيرة التي نُشرت في مجلة (هاربر) الثقافية العريقة، والتي تحذر في فحواها من انتشار ثقافة الإلغاء، وأنه مفهوم وعمل سيدمر التفكير الحر، والقدرة على الاختلاف وإبداء الرأي، حيث وقع على هذه الرسالة عدد كبير جداً، وذلك بمقاييس إجماع المؤيدين من المثقفين والعلماء على أمر ما، حيث تضمنت القائمة أسماء كبيرة مثل (تشومسكي) و(فوكوياما).
تفاخر الثقافة الأمريكية بمدى رحابة صدرها لتقبل الرأي المخالف، وأن هذا سر من أسرار القوة للأمة الأمريكية، وأن اختلافهم قوة وتعددية ثقافية تميزهم عن غيرهم من أمم الرأي الواحد. وهذا أمر يتم تدريسه لأطفال المدارس منذ مهدهم التعليمي، ولكن الحقيقة المجتمعية أمر مختلف تماماً، حيث يكفي أن يجلس الشخص مع عائلة بيضاء من الولايات الجنوبية، ليسمع منهم قصصاً عجيبة مسكوتاً عنها عن تمييز عنصري عكسي يتعرض له أبناؤهم في المدارس والجامعات، وذلك عندما يتحدثون حديثاً عادياً عن خوفهم من ازدياد أعداد المهاجرين غير الشرعيين من دول أمريكا الجنوبية على سبيل المثال.
يذهب كثير من باحثي علم النفس الاجتماعي و(الأنثروبولوجيا) إلى أن تزايد ظاهرة الإلغاء الثقافي في الولايات المتحدة بالتحديد مصدرها تنامي ثقافة أخرى هي ثقافة الاستياء، وذلك من كثير من الأطراف، بداية من طبقة مرفهة نشأت على نمط معيشي عالي الرفاهية، ولا تريد لأحد أن يشاركها أو يخطف منها هذا النمط المعيشي الفاره من أولئك القادمين من خلف بوابات التخلف والجهل والجوع، ومن وراء أعالي البحار من دول ومجتمعات طحنها الجوع والثقافة الغريبة عنهم، وانتهاء بطرف آخر يرى أنه ليس لأحد أن يدعي أن الأراضي الأمريكية ملك خاص له، فيسيطر على تجارتها وأعمالها وفرصها المتاحة دون أحد آخر، فهم قد قدموا لبلاد قام دستورها على الترحيب بالحالمين، ومنحهم الحلم وفرصة التعبير والفرص المتساوية.
إضافة إلى ذلك، فإن خطاب السياسيين غذى من ذلك الاستقطاب والنفور من الآخر المختلف، وذلك بداية من الرئيس الأسبق (جورج بوش) الابن، مروراً بـ(أوباما) ثم (ترامب)، حيث اتسم خطاب رؤساء الألفية الجديدة المتتابعين هؤلاء بسمات تغذي الاستقطاب والأحادية، وتركز على الفروق الاجتماعية والعقدية والثقافية، حتى وإن كان الظاهر من خطابهم الرحمة بالدعوة إلى توحيد الصفوف والاصطفاف تحت الراية الواحدة، ولكن في الثنايا المبطنة رسائل لا تخطئها أذن وعقلية المتلقي الأمريكي الذكي.
إن من المتوقع لهذه الظاهرة أن تتخذ شكلاً أكثر عنفاً، وأن تتطور لتصبح أكثر تطرفاً في المجتمع الأمريكي، ثم تجتاح العالم كله بعد ذلك بفعل المحاكاة، وإن بدت الآن مظهراً فكرياً غير ناضج أو منطقي، ولكن الانتشار لا يحتاج إلى السبب العقلي أو وجهة النظر المنطقية ليتفشى، حيث سيغذي من هذا الانتشار القواعد الراسخة من مفاهيم حرية التعبير والاعتراض التي سيُساء تفسيرها واستخدامها، فالمعنى الوحيد لهذا الأمر أن الناس هم من سيحقق العدالة كجماعات مندفعة، وبهذا لا دور لمؤسسات القانون والعدالة، وعليه فلا وجود لسلطة الدولة ولا حاجة لها، ولا يصف هذا الوضع الغريب خير من مقولة الإسكتلندي الساخر (توماس كارليل) إن «أعداء الديموقراطية فئتان: فئة لا تمارسها، وفئة تمارسها». وإن الذي يبدو مما ظهر من مالات هذه الديموقراطية، أن من يمارسها هم الأكثر عداوة لها، حيث تطورت أساليب ممارستهم فوصلت لمرحلة الإلغاء!
** **
وائل بن عبد الله الشهري - أكاديمي سعودي. الولايات المتحدة الأمريكية.
Twitter: @iwael11