الرغبة بالموت، هي الولادة. لم يعد البكاء يكفي، رغم أنه لغةُ الوجود الذي يتهاوى أمامي؛ لا ذاتَ باقية، كلٌ آفل في عينيّ، حتى بصيص النور المتسرب من شقِ الباب علقَ ولم يرغب الوصول للثقبِ الأسود في قلبي.
تعتقد الكائناتُ في لوحةِ الحياة أن قوام الأشياءِ من حبرِ المادة التي تخنقُ المكونات لعنقِ زُجاجةٍ نزقة لا تُريد لشيءٍ أن يمر دون أن يتقولب، ويفقد جسده في طريقِ العُبور الضيِّق! يتحوّل الماضي أمامي لبؤرةِ بركان تتغذى على جسدي، لم يعد للأمرِ من بُد فالذكريات المُهشمة قوام هذا الجسد الجريح.
لماذا؟ صحتُ وتناثرت الوجوهُ في جسديّ لتكون نعليّ هذه الذاكرة الصبّة. يتقلبُ الكون في عيني الريح التي تزورُ من كل صوبٍ عميق؛ لتؤثّر ! ثّم يُذرى كل شيءٍ أمامي بمحض لحاظ. أهشٌ هذا الحدّ الذي يقصمُ النهاية.
تمضي بي الرمالُ، وتبلغ بي الصحاري نهاياتها التي لم تحِن بعد، ويتسعُ الفراغ الذي أتوه فيهِ محمولاً في دُجى الحُبّ الذي أسقيه الجماعات فلا تعل بعد ذاك من ذاكرة ولا تتصل... يبدو أن خروجيّ عن العجلةِ التي يدورُ بها الوجود يُحملني مؤنةً عظيمة، فها هي الأشياء التي لا تريد تغيير شيء تتشبث بيّ كقيودٍ عتيدة، ليس هذا حُبًا، إنه المُضي للنهايةِ المقفرة، ولستُ سبيلاً لكل هذا الهُراء، عليّ إذًا أن آمر لغتي لتقومَ بسحقِ الشواهدِ أمامي لأمضي.
حتى هذا الوهن يمضي بيّ لفسحةٍ لا يُمكن فيها إلا تذوق الهاوية التي ترميني فيحضنها مِرارًا لكن جسديّ الغيمي يوصلني لبرِ الأمانِ بعد هذه الآلام المُريعة جدًا والهادئة جدًا.
لا أريدُ الدوران وأفلاك الوجود تسعى بيّ، كثيرةٌ الحيوات التي تخفقُ بداخلي، وفي كل حين عليّ أن أمشي على صراطٍ دقيق ترقبهُ الأعين القاسية؛ تريد ليّ العودة، ولم يعد مكان قادرًا على احتواء هذا الجسد الذي يجس انتفاضتي إلى العدمِ، أن أقارع الرحيل لأبقى للأبد.
يغادر هذا الحُزن فلاة جِسمي الذي يتلمسُ العِطرَ في سويدائهِ... أحسُ فضاءً حوليّ يتبدل، ويُقل الهواء كل هذه اللغة المحفورة في صميمي؛ الصرخات التي هزّت ذاتي لتساقطَ ثمرًا جنيًا، وحلوى لذيذة.
أمدُ يديّ لأذوقَ اختناقي، تضعضع الكلماتِ التي تُقبلني لأعشقها وتعشقني لأكتبها، بيد أن الحياة تدقُ وتدًا في جسدِ الريح لتزهر، وتمسحُ ذاكرتي لتُسفر... أتوضأ بجسدِ الريح الساعية فيّ؛ لأتفتقَ جسدًا جديدًا وجمالاً آخر. يا عاهل آلام العالمين ياضياء العارفين ومسحةَ الصادقين قُل: فكلمتك اليوم حياةُ الغدِ الأجمل.
** **
- هيثم البرغش