لم يكن المشهد الثقافي الحديث في بلادنا على دراية عميقة بالدفتردار، بوصفه معلمًا رائدًا، أو (مؤرخًا وأديبًا). ولم تحفل بذكره غير كتب التراجم وسير الأدباء، التي أشار أصحابها إلى هذا العلم المدني في بضعة أسطر، لا تكشف دوره وجهوده بالقدر الذي يستحقه.
وكان تلميذه رجل التربية والتعليم محمد حميده، أول من خصه بعد وفاته بعامين بمقالة، بعنوان: (من أعلام التربية والتعليم في بلادنا الشيخ محمد سعيد دفتردار)، نشرها في العدد السابع من النشرة التربوية الصادرة عن وزارة المعارف، عام (1394هـ - 1974م)، وكان أن طوى النّشرة النسيان، فلا يكاد الباحث يظفر بما يروي عطشه في معرفة هذا العلم الرائد، على رفعة قدره وتنوّع اهتماماته العلمية، وصنيعه القيّم المتمثّل في نشر التعليم في المدينة المنورة وضواحيها، والتوسع في تأسيس المدارس في وقت مبكر، عقب إنشاء مؤسسة التعليم (معتمديّة المعارف) في البلاد.
أقول: تنوّع اهتماماته؛ لأنّ الدفتردار كان شاعرًا وكاتبًا وقاصًا، خاض غمار هذه الفنون مبكرًا، وأصدر في بعضها كتبًا مطبوعة ومحفوظة في طبعات قديمة.
كان الأمر كذلك، حتى تنبّه له الدكتور محمد العيد الخطراوي، فكان الدفتردار ضمن ثلة من الشعراء وكتّاب القصة المدنيين، الذين نفض الخطراوي عنهم غبار النسيان، وأخذ على نفسه جمع إنتاجهم من الدوريات الأدبية، وحقق المخطوط منه، وعرّف بهم من لا يعرفهم من القراء والباحثين وجماهير الأدب؛ فقدم (محمد سعيد دفتردار مؤرخًا وأديبًا)، في كتاب بهذا العنوان، أصدره عام (1424هـ - 2003م)، وانتخب من إنتاجه ما يحقق برأيه وصفه بـ(المؤرخ والأديب). وسرد قصة كتابه: (أعلام المدينة المنورة)؛ الأثر العلمي (المخطوط) الأبرز والأشهر والأكثر أهمية، من مجمل ما اشتغل به الدفتردار من شؤون.
وقد تلقيت ذلك قارئاً ومتابعاً، وأعدت قراءة الدفتردار على ضوء ما كتبه الخطراوي وغيره من الباحثين. وذهب بي اهتمامي بهذا الأمر مذهبًا، حملني على العودة إلى جميع مؤلفاته المطبوعة العتيقة، المحفوظ نسخ منها في مكتبة المسجد النبوي الشريف، ومقالاته / تراجمه في جريدة المدينة المنورة ومجلة المنهل، في الأعداد الصادرة منهما في العقدين: الثامن، والتاسع، وبداية العاشر من القرن الثالث عشر الهجري، لأتعرّف على فحواها ومحتواها، ومقدار ما أضافته للمنجز العلمي والأدبي في المدينة المنورة.
وكان كتابه: (أعلام المدينة المنورة)، هو الدافع الرئيس الذي حملني على ذلك، وهو المقصد الأساس الذي أخذت على نفسي جمع متفرقاته، وتحرير موضوعاته والتّعريف به، ونشره للقراء.
ولمّا كان الأمر كذلك، كان لا بد من إعادة التّعريف بهذا الكاتب على نحو مفصّل، ليتسنّى لنا الولوج إلى الكتاب، الذي كان مؤلّفه يؤثره على غيره، ويعتدّ به أيّما اعتداد، ويمنّي نفسه وقرّاءه به، ويحدّث به زملاءه وأصدقاءه، ويتحدّث عنه زملاؤه وأصدقاؤه. ويذكره مفتخرًا في شعره ونثره، ويدّخر له الوقت ويمنحه الجهد؛ ليتمّه على الوجه الذي يرتضيه. حتى غادر دنيانا ولم تتحقق أمنيته..!.
ومن ثمّ فقد أنشات (الجزء الأول) من كتابي هذا بعد هذه المقدمة؛ ومهّدت به للتراجم الدفتردارية؛ فتناولت فيه مولد المؤلّف محمد سعيد دفتردار، ونشأته، ومراحل تعليمه الأوّلي بالمدينة المنورة، والبلاد التي ذهب إليها قسرًا -إبّان رحلة تهجير أهل المدينة المنورة (سفر برلك)- وهي سوريا ولبنان، أو اختياراً وهي مصر التي تعلّم فيها وتخرّج في جامعها الأزهر الشريف. ثم أوبته إلى المدينة المنورة وتولّيه معتمديّة المعارف فيها، وجهوده في نشر التعليم في المدينة المنورة وضواحيها.
وقدّمت لمحات موجزة عن علاقته بأدباء المدينة ومكانته بينهم، ومؤلّفاته في التاريخ، والقصة، وكتابته الشعر، ومقالاته النقدية، ومدى تحقّق صفة (المؤرخ) فيما أصدره من مؤلّفات في هذا الحقل؛ وصولًا إلى مدار الحديث وجوهره، وهو كتابه: (أعلام المدينة المنورة)، وما اعتوره من شؤون وشجون.
ثم يلي ذلك (الجزء الثاني) من الكتاب، وفيه جمعت جلّ ما نشره المؤلف -رحمه الله- من تراجم تصدّر العنوان السابق جلّها عند نشرها، وحفظ فيها سير وجهود علماء وأدباء أجلّة، ووجهاء، وحرفيين، كاد ذكرهم يذوي لولا ترجمته لهم، وتوثيقه لسيرهم، وإظهاره نماذج من الفنون التي برع فيها كلٌ منهم، ورسمه ملامح مكتملةً لأولئك الرجال، وتبيانه جهودهم العلمية، أو المهنية، ومكانتهم الأدبية والاجتماعية.كما أظهرت تراجم الدفتردار؛ طبيعة العصر الذي عني بأعلامه، سواء من الذين عاصرهم، أو من الذين لم يعاصرهم.
وقد أولى الجانب العلمي جلّ عنايته، فسجّل جزءًا من تاريخ العلم بالمدينة المنورة بعامة، وفي مسجدها النبوي الشريف بخاصة، بما حوته تراجمه ووعته من تفصيل دقيق في سير العلماء، وبعض سرائر أحوالهم، ودقائق أخبارهم وجليلها، وطرائق الطلب والدراسة والتعلم والتعليم، والإجازات، والإمامة، والوعظ، والإفتاء، والتأليف، والقضاء، والإدارة، وطرائقها وكيفياتها ومراحلها، في المدة التي عني بها.
كما كشف تقاليد حلقات العلم ونظمها، وما حفلت به من معارف وعلوم، واتجاهات فكرية، وتعدّدية مذهبية فقهية، تعكس قدرًا من التنوع العلمي الحيوي. وما تمخّض عن ذلك من زخم معرفي، جلّى دور هذا المسجد الجامعة، في تأصيل قيم علمية معرفية جادّة. وأسهم في تعظيم خاصيّة جاذبيته للعلماء؛ مما أضاف إلى قيمته الروحية وزادها رسوخًا، وذلك في الحقبة التي عاشها أعلام الدفتردار.
وقد انتهى الدفتردار من عنايته بعلماء تلك الحقبة، وتأمّله سيرهم، وتتبّعه أحوالهم؛ إلى ملاحظة دقيقة، وهي: «الميل إلى روح التّصوّف، التي كانت طابع ذلك العصر، وسمةً من سمات معظم علمائه». وتكرّرت إشاراته إلى ذلك (الميل)، وتلك (السّمة) في أكثر من موضع، في تراجمه لعلماء المدينة المنورة السّلفيين.
وقوله: (الميل إلى روح التّصوّف..) هنا، تقتضي لازمها الضمني- الذي لم يغفل عنه الدفتردار، وهو يلحظ هذه الظاهرة بنباهة الباحث المحقّق، وينتقي لها هذا التعبير الدقيق-وهو خلوّ ذلك التّصوّف، من المظاهر الطرقية، والبدع والخرافات. وبروز (روحه): تجلّياته العرفانية في الورع الحقيقي، والشوق إلى الله، والترفّع عن مباهج الدنيا، واستصغار الماديات والتحرر من جاذبيتها، وابتغاء الامتلاء الروحي. واستمرارية مجاهدة النّفس وتربيتها وتصفيتها، دون التنازل عن الاشتغال بالمعرفة، ودون ابتذالها. والشغف الراسخ والمستمر بإدراك المعنى في الشعائر. ذلك المعنى الذي يعطي للشعائر قيماً تتجاوز نمطية العادة، وأبعادًا تغالب مظهرية الممارسة الشعائرية، إلى حال تستبطن روح تلك الممارسة.. وتمسّ غاياتها العليا، وتدرك جوهرها الخفي؛ تمكينًا للحياة الروحية، ونزعتها المستمرة إلى ما يشبع حاجاتها العميقة. وعملًا بمقتضيات الإحسان، وتوقًا إلى بلوغ مقامه.
دون الخروج عن أصول الشّرع الحنيف وحدوده، ودون اقتراف ما يمسّ العقيدة، أو يدني من شوائب البدع..، أو هكذا يمكن أن نتلمّس بعض آيات هذه الأحوال والمعاني والتجلّيات؛ في سلوك وسمت كثير من أعلام المدينة، الذين ترجم لهم الدفتردار، وطرائق حياتهم، وسيرهم.
كما عني الدفتردار أيضاً بإبراز الجوانب الأدبية في تكوين الأدباء، من الأعلام المدنيين الذين ترجم لهم. فأشاد بالمميّز منهم شعريًا، وأشار إلى من هو دون ذلك، وذكر ما طرقه الصّنفان من أغراض شعرية، وأورد نماذج منها. وبذلك قدّم تصورًا عامًا عن الحالة الأدبية في الحقبة التي تناول أعلامها.
ويمكن لمن يطّلع على تراجم الدفتردار؛ التعرّف على طبيعة العصر الذي عاش فيه الواحد من أولئك الأعلام، أو الجماعة منهم من المتجايلين، ونصيبه من المعرفة، أو الشهرة والوجاهة. واتجاهات التفكير العلمي في عصرهم، ومنتوجه من المؤلّفات، وما انتهى إلى هذه الأمور من وشائج، وما لابسها من صلات قمينة بكشف جزء كبير من الواقع العلمي والأدبي والاجتماعي والاقتصادي، والسياسي، بالمدينة المنورة في تلك الحقبة.
* من مقدمة الكتاب الذي سيصدر قريباً بهذا العنوان.
** **
- د. محمد إبراهيم الدبيسي