د. عبدالحق عزوزي
بعد أزيد من سنة على إعلان حالة الطوارئ العالمية يمكن القول إن جائحة كورونا هي أزمة صحية بامتياز، لا نشهد مثلها سوى مرة كل قرن، وسنشعر بآثارها لعقود. كما أن هناك سنوات عجافًا ستنتظر الدول والشعوب في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها؛ وأصبحت الزيادة في الإنفاق في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية من أولويات الدول بأسرها، وبدأت علاقات الدول تتغير فيما بينها، وعلاقة الأفراد بالمجتمعات وبالطبيعة ونوعية العلاقات داخل المجال السياسي العام.. ورغم ما نسمعه من تعافٍ لبعض الاقتصادات في بعض من المجالات فإن القيود الصحية والبلبلة المتواصلة في سلاسل الإنتاج والتوريد ستعيق أي انتعاش اقتصادي حقيقي، كما أن الدَّين العالمي سيصل إلى مستويات لا يمكن أن تُحمد عقباها..
وهذا ما أظهرته - للأسف الشديد - أحدث تقارير معهد التمويل الدولي الذي أشار إلى ارتفاع الدَّين العالمي إلى مستوى قياسي عند 281 تريليون دولار في 2020، مع توسع الحكومات في الإنفاق لمواجهة تداعيات جائحة كورونا؛ وأضحى الدين العالمي بهذه الزيادة يعادل 355 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنهاية 2020، بزيادة 35 نقطة مئوية عنه بنهاية 2019. وهذه الزيادة السنوية في حجم الدَّين العالمي هي أضعاف الزيادة إبان الأزمة المالية العالمية التي بدأت في 2008، ونتجت عن انهيار سوق الرهن العقاري بالولايات المتحدة، وامتد تأثيرها إلى كل أنحاء العالم.
وفي السياق نفسه حذّر البنك الدولي في تقرير صدر له منذ أيام من أن الدَّين العام لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سيتضخم، ويمثل 54 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي هذا العام مقابل 46 في المئة في عام 2019، بسبب النفقات المتعلقة بجائحة كوفيد 19.
وأشار البنك الدولي إلى أن بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا شهدت «زيادة كبيرة في ديونها» بسبب اضطرارها إلى «الاقتراض بشكل كبير» لتمويل «تكاليف الرعاية الأساسية وإجراءات الحماية الاجتماعية». كما أن حجم دين الدول المستوردة للنفط في المنطقة سيشكل نسبة يمكن أن تصل إلى 93 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي في عام 2021. مضيفًا: «لن يكون لدى بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خيار سوى مواصلة الإنفاق على الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية طالما استمرت الجائحة».
وشهدت المنطقة التي تضم نحو 20 دولة انكماشًا في اقتصادها بنسبة 3.8 في المئة العام الماضي. ويقدر البنك الدولي التراجع التراكمي للنشاط في المنطقة بحلول نهاية 2021 بنحو 227 مليار دولار، لكنه يتوقع تعافيًا جزئيًّا هذا العام «شرط أن يكون هناك توزيع عادل للقاحات».
وهاته المعضلة لا تعاني منها دول الشرق الأوسط فحسب، بل جميع دول العالم.. ثم إن دولاً مثل فرنسا تسجّل ركودًا كبيرًا من جراء أزمة تفشي وباء كوفيد-19، مع تراجع إجمالي الناتج الداخلي بنسبة 8.3 في المئة، بحسب تقديرات نشرها المعهد الوطني للإحصاء. وأفاد المعهد بأنه خلال الحجر الثاني كان تراجع النشاط «أكثر اعتدالاً بكثير من تراجعه المسجل خلال الحجر الأول بين آذار/ مارس وأيار/ مايو 2020». وفي الفصل الأخير من العام تراجع إجمالي الناتج الداخلي «بنسبة 5 في المئة عن مستواه المسجل قبل عام».
وبعد تسجيل نمو بـ1.5 % عام 2019، وهو من بين الأعلى في منطقة اليورو، سجلت فرنسا في عام 2020 ركودًا قياسيًّا منذ الحرب العالمية الثانية. وترجمت أزمة وباء كوفيد-19 التي دفعت الحكومة الفرنسية، بل جل الحكومات الأوروبية والغربية، إلى وقف أو تقليص النشاط الاقتصادي بشدة للحد من ارتفاع عدد الإصابات... فمثلاً أدت التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا إلى خسائر قياسية لمجموعة «رينو» الفرنسية لصناعة السيارات، بلغت ثمانية مليارات يورو في عام 2020. وإضافة إلى أزمة كوفيد-19 تكبّدت المجموعة الفرنسية خسائر بلغت 4.9 مليار يورو بسبب ما شهدته شريكتها اليابانية «نيسان» التي تملك «رينو» 43 في المئة منها.
والحقيقة إن هناك ضبابية ضخمة تحيط بالطريقة التي يمكن للاقتصاد العالمي أن يسدد بها الديون في المستقبل دونما تداعيات وخيمة على النشاط الاقتصادي، كما أن الظروف الجيو-اقتصادية العالمية الحالية لا يمكن إلا أن تدعو إلى الإنفاق لمعالجة الأزمة الصحية، بمعنى أن مواصلة الإنفاق والاستمرار في الاقتراض سيبقيان ضرورة ملحة لضمان الاستقرار الاجتماعي في الدول.