أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
عقد الحافظ أبو نعيم الأصبهاني فصلاً بعنوان ((ذكر القصور المنجَّدة، والمقاصير المعدَّة: مما عجزت عن رؤيته العيون، وعن إدراكه الخواطر والظنون.. أعدها الله لأوليائه نزلاً)).. انظر صفة الجنة لأبي نعيم 1 -135 بتحقيق علي رضا بن عبدالله بن علي رضا/ دار المأمون للتراث بدمشق الطبعة الثانية عام 1415هـ.
قال أبو عبدالرحمن: إنما العجز بعد المحاولة، وأحوال الجنة لا سبيل لإدراكها في الدنيا ألبتة إلا من أذن الله له كرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج؛ فهي من الواقع المغيب بلوازم من واقعيته من الصفات، وبرهان هذا الغيب برهان علمي هو كل البراهين بالإيمان بالله على صفات الكمال، وقدسية شرعه عن الخلف والكذب والجهل.. وكل وصف للجنة وما فيها فهو وصف مطابق في الواقع، ولكنه بالنسبة لنا مقارب؛ لأننا لا نعقل إلا بلوغ الغاية في النعيم وكمال الوصف، ولا نستكنهه على الرغم من ذلك حتى ننعم به في الآخرة.. جعلنا الله ممن يتمتع بهذا النعيم بدءاً معاذاً من النار.. وكل تسمية لما فيها مما هو اسم لما عندنا من لبن وخمر.. إلخ: فلا مجال فيه للتشبيه سوى الرجوع للوصف المطابق واقعاً المقارب بالنسبة لنا.. ما دمنا في عالم الغيب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال ربكم عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لاعينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. إقرأوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة السجدة/ 17).. وهو حديث صحيح أخرجه أحمد والترمذي والدارمي والنسائي وغيرهم؛ فقد امتنع الحس دنيوياً بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وامتنع الشبه المقارب بما لم يخطر على قلب بشر.
قال أبو عبدالرحمن: وعلى هذا الكمال الواقعي المغيَّب يُحمل كل وصف صح به النص كما في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُدْخلتُ الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك.. والمراد بالجنابذ جمع جُنْبُذة بمعنى القبة، وهي تعريب كنبذة من الفارسية.
وفي صحيح مسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة: بأنها دَرْمَكة بيضاء، مسك خالص.. وجمع الدرمكة الدرمك، وهو دُقاق كل شيء.
قال أبو عبدالرحمن: في الدنيا لؤلؤ ومسك، ولكن المسمى بهذين في الجنة مما لا تخطر حقيقته على قلب بشر.. وصح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قوله: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لو أن ما يُقلُّ ظُفر مما في الجنة بدا لتزخرف له ما بين خوافق السماوات والأرض.. ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم)).
قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث صحيح قاطع على أن ما في الجنة يشارك ما في الدنيا في الاسم فقط؛ لأنه لا سوار في الدنيا يطمس ضوء الشمس!!.. وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل: لا يتغَوَّطُون، ولا يبولون، ولا يَمْتَخِطُون، ولا يَبْزُقُون.. أمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك..أخلاقهم على خلق رجل واحد، على طول أبيهم آدم (عليه السلام) ستون ذراعاً.. والألوة العود الذي يتبخر به.
قال أبو عبدالرحمن: من هذا النعيم ما حُرموه في الدنيا كاستعمال آنية الذهب إلا ما استثني من حلية السيف.. وذلك جمال ونعيم، وقد منعهم الله منه في الدنيا لمصالح منها: تعويضهم في العمر الأبدي بالجنة؛ لأنهم حققوا العبودية لربهم بترك ما يشتهونه من أجل ربهم.. وهكذا صبرهم على اللحية وكثاثتها - وهي جمال وإن تأذى منها بعضهم في الدنيا -؛ فعوضهم في العمر الأبدي أن يكونوا مرداً.. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يُبعث الناس يوم القيامة في صورة آدم: جرداً، مرداً مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين.. ثم يؤتى بهم بشجرة في الجنة فيُكْسَون منها: لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم)).. ولقد أطال الأستاذ علي رضا تخريجه وصححه في تحقيقه لصفة الجنة لأبي نعيم.. وهكذا صح الخبر في صحيح مسلم وغيره: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يدخل الجنة ينعم: لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)).. وصح الخبر عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة الأعرف/ 43).. قال: نودوا: أن صحوا فلا تسقموا أبداً، واخلدوا فلا تموتوا أبداً، وانعموا فلا تبأسوا أبداً)).. وصح عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أهل الجنة قال الله تعالى: هل تشتهون شيئاً فأزيدكموه؟.. قالوا يا ربنا: وهل بقي شيء إلا وقد نلناه.. فيقول نعم رضائي؛ فلا أسخط عليكم أبداً)).. وصح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟.. فيقولون لبيك ربنا وسعديك.. فيقول: هل رضيتم؟.. فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من خلقك؟.. فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك: أحل عليكم رضواني؛ فلا أسخط عليكم بعده أبداً))؛ ولقد بوَّب أبونعيم لذلك بقوله: ((ذكر الأمان لأهل سكان الجنة من الموت، والظعن فيها، وما ينادون به من التباشير عند دخولها)).
قال أبو عبدالرحمن: ها هنا أربعة أمور:
أولها: أن الإيمان بواقع الجنة إيمان علمي بكل براهين وجود الله بصفات الكمال، وبكل براهين صحة النبوة، وبكل براهين عصمة الشرع، وبكل براهين تخلُّف المانع عن وجود ذلك الواقع المغيَّب بحقيقته.. وكلها براهين مشتقة من بدهيات العقل الفطرية، وبدهياته الكسبية، وكلها براهين صحة العلم الحديث من الملاحظة إلى استقرار التجربة.
وثانيها: أنه يقصر ويتدانى في معرفة نعيم الله من كيَّف أو قدر بموجوداته الحسية في هذه الدنيا.
وثالثها: أن خلود أهل الجنة وعد من الله، وليس حكمه حكم الإيعاد الذي اختلف فيه العلماء، فخلودهم بنعيمهم وعد صحيح حق لا خلف فيه مهما استجد في ملك الله من أكوان من صنعه؛ لأن ربنا فعال لما يريد.
ورابعها: أن النعيم متجدد، ولا يعتور أهل الجنة ملل من راحتهم ونعيمهم، وإنما يلقي الشيطان هذه الشبهة في قلب من ظن أن مشاعر الإنسان وبنيته في الدنيا هي مشاعره وبنيته في الآخرة، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -