تركي بن رشود الشثري
الاتزان مطلبٌ نفسي وفكري وجمال روحي، فهو من الأمور المتفق عليها بغض النظر عن صدق تمثُّلِها من عدمه أو قلَّته، فالجميع يطالب نفسه ويطالب غيره بأن يكون متزناً في كل ما يأتي ويذر، والجميع أيضاً يعلم حق العلم أن الاتزان يؤدي إلى إعطاء كل ذي حق حقه وإعطاء كل ذي حظ حظه من الاهتمام، من الرعاية، من الإنصاف، من التعامل الجيد سواءً كان ذلك على مستوى الفرد فيوازن بين مطالب روحه ومطالب عقله ومطالب جسده ويضبط إيقاع التداخل بين مشاعره وعقله أو أولياته الفكرية، فمن المعلوم أن العقل يتميز بمحكمات تحاول إخضاع العواطف، ولكن في المقابل العواطف لها طفرات ومدٌّ لا تنثني بل هي تُؤثِّر على العقل التأثير بشقيه السلبي والإيجابي، وهي تبرر له وتدافع عن إملاءاته التي استنبتتها بقوة الأشواق أو بإلحاح التساوق مع محيط مكاني أو فضاء زماني، أو كذلك على مستوى المجتمع فيوازن بين أطياف الناس، ومستويات الناس، وعلاقاته مع هؤلاء الناس، وتتنوع المجالات التي نتطلب فيها التوازن.
ففي عالم الأفكار مثلاً نطالب بالتوازن في طرح الفكرة، أو تحليل الفكرة، أو نقد الفكرة بين تاريخها، وأصولها، والمتغيرات التي مرت بها، وظروف نشأتها وتطورها، والنظر إليها من أكثر من زاوية، والاتزان بين نظرتنا العلمية لها وتعاطي الأحزاب المختلفة لها من منظور إيديولوجي، ومعلوم ما بين النظرة الإيديولوجية والنظرة العلمية في تمحيص الأفكار من التضاد.
وفي عالم المناهج نطالب كذلك بما مر، وبمعرفة أن المناهج إقصائية بطبعها ولا يمكن أن يكون المنهج منهجاً إلا بهذا الشرط ألا وهو الإقصائية، فإذا فقد المنهج شرطه الإقصائي تحول إلى نظرية أو إلى حزمة بيانات ولكنه لم يعد منهجاً.
فماذا عن الموازين العقلية وهل العقل يتطلب شيئاً من خارجه ليصدر الأحكام أم أنه مكتفٍ بذاته فهو يضع موازينه ومن خلالها يصدر أحكامه فهو «كلٌّ جامعٌ مانعٌ»، وينعكس هذا على علاقته بالدين ومصادر التلقي فيه، ويجرنا ذلك إلى التفكير في أكبر عملية هز وتحريك شديد للعلاقة بينهما أي الدين والعقل أو الدين والعلم والتي شهدتها أوروبا في ثورتها المقدسة على الكنيسة التي لم تعد مقدسة بالدرجة الكافية، عندما أم العلماء في أوروبا المعامل واعتنقوا دين الطبيعة وصار هو الحاكم بمعزل عن الميتافيزيقا، وهو الملجأ الذي يوفِّر النجاح العلمي والملاذ الروحي عوضاً عن تسلط الكنيسة وجبروت رجالها، فما الذي حدث بعدما تطور هذا العلم وسُخِّر لأعظم صناعة عرفها البشر ألا وهي صناعة السلاح والتي تقام الدنيا كلها اليوم وتقعد في مجالاتها أجمع الثقافية والصناعية والاقتصادية والسياسية والمعلوماتية تبعاً لمصالح مروجي السلاح وصناع السلاح لأنهم صناع القرار، فالغرب كما يقال يحكم بالقوة الممنهجة لا بالتفوق الحضاري ولا غيره، حدثت حربان عالميتان راح ضحيتهما الملايين الذين تحولوا لوقود الأحلام الإمبراطورية وقنبلة هيروشيما التي عرَّت العلمية الغربية عن الإنسانية، وحرب باردة أكلت من نفوس وعقول جماهيرها وسيلت أفكارهم وقسرتهم على التنقل المحموم غير المبرر بين الأفكار والمناهج والتي هي بطبيعتها كما أسلفنا إقصائية، فكانوا بلا منازع أعلام الإقصائية ورموز الإقصائية لدرجة رمي الثقافات والحضارات الأخرى بها أي بالإقصائية بمناسبة وبغير مناسبة، والأمثلة على ذلك تند عن الحصر ومن أوضحها إجبار الأمم على الديمقراطية والتبشير بالليبرالية كحل متاح للخلاص من الفقر والجهل والحروب والأمراض.
العقل منحة ربانية وهبها الله للناس ومايز بها بينهم وبين سائر المخلوقات فهي محل التشريف ومناط التكليف، ومع هذه المكانة إلا أن كنه هذا العقل وطريقة عمله ستظل في حيز ما غاب عن الإنسان علمه وقصر عنه فهمه، وهذا يدلنا على أن العقل ذاته له حدود ورسوم يقف عندها ولا يملك مجاوزتها، وهذا هو الذي يمكِّننا من الاستفادة منه أي العقل إلى أقصى حد ممكن؛ لأننا نؤمن أن له حداً يقف عنده، أما إذا كلَّفناه ما لا يطيق فقد أزرينا به وعطلناه عن شغله الأهم ألا وهو تحليل المعلومات التي تقدم إليه في الحقول المعرفية الممكنة والمتاحة، وكفى بها معرفة أن نقف على حد العقل وميدان عمله، ففي هذا من القوة العلمية والتوقف المحمود لفتح آفاق الخيال وإنعاش ذاكرة الحدس وتحريك مكامن التنبؤ، وهذه مهام مشتركة بين النفس والعقل والروح، فلماذا يشتط العقل في كل مبحث ويريد الانفراد بالعمل دون سائر محركات التقصي والتأمل والتطلع للعلوم اللدنية وهي علوم غير مكتسبة بل هي مقطوعة السبب يهبها الله البعض فقهاً قلبياً، ولا نقصد بها هلاوس غلاة العارفين وأرباب حدثني قلبي عن ربي فهؤلاء خارج نطاق الحديث، وعلى ذكر المعلومات فقد ينكر أهميتها من لا يمتلك إلا النزر اليسير منها، فهي الحطب الذي يشعل نار الفكر، وهي الخام الذي يتصرف فيه العقل استنباطاً ودرساً وتحقيقاً ونقداً وبعثاً وتجديداً وبناءً وهدماً، ومع ذلك فليست هي على الدوام الشرط الأوحد لعمل العقل، نعم هو لن يعمل بلا معلومات تدخل إليه، ولكن من الشروط الأخرى تنظيم المعلومات، وتهذيب المعلومات، وتنقيح المعلومات، وتصفية مصادر المعلومات، فالمعلومات كثيرة ومتضخمة ومتعددة المصادر بل ومبذولة وملقاة على قارعة الطريق، والنجاح هو في الانتقاء العلمي لا الإيديولوجي منها وتفعيلها لتحسين جودة الحياة، وكما يقال فكثرة المعلومات لا يقل سوءًا عن قلتها. وللعمل العقلي شروط منها: امتلاك ناصية التفكير الإبداعي والمرن والمتجدد، والقدرة الفائقة على حبس الأنفاس والانتقال الرشيق من طور فكري ومن آلية فكرية ومن توجه ذهني ومن تقليب النظر في مادة البحث أو النقاش، أو التعاطي العام على مستوى المؤسسة أو المجتمع أو الدولة أو الفرد قائداً كان أم مفكراً أم عالم اجتماع، كل هذا مع استيعاب البيئة التي تتطور والظروف التي تتغير والعلاقات الدولية التي تتلمس مواطَن المصلحة، وتميل مع القوة ونعومة الثقافة وسيولة الاقتصادومواطن الخامات، كل هذا يجعل المنظومة أو الفرد في حالة من التواجد والتأهب والفاعلية النفسية والعقلية للاستفادة غير المحدودة إلا بحدود حركة التاريخ والتي تستخلص من الموقع الجغرافي كل ما يمكنه إعطاءه في حقبته وأوانه.
ومن الشروط أيضاً لعمل العقل عملاً ممكناً أن يتوافر له معطيات يتمكن من خلالها للوصول إلى التحديد، والتصور، والمقارنة، والمساءلة، ومن هذه المعطيات «التعريفات -المسميات - الأسباب - الشروط - المقدمات - المفاهيم» وغيرها.
ومن الشروط أيضاً التفاعل الواعي مع الأحداث والإفادة القصوى من الخبرات فالخبرة العقلية لا توازيها خبرة أخرى، فهي بخلاف الخبرة العاطفية والتي تستجيب للأحداث المؤلمة وتصطدم بها وتستحلب كل ما في الحادثة من معاناة وتستدعيها فيما بعد في صور عدة منها الاكتئاب والانطواء والحكم بفساد الزمان وتغير الناس، نعم للأحداث المؤلمة فوائد وعوائد في صقل الشخصية وتمرين الأعصاب وتقوية القلب، ولكنها بحسب الاستجابة العقلية والتوجه الفكري الذي يجيد امتصاص الصدمات وتحويلها إلى أمصال واقية من عوادي الدهر وتقلبات الأيام، فالخبرة العقلية المتزنة ثروة لا تقدر بثمن، والمهارة العالية في تنظيم الخبرات في الذهن ومن ثم تسليطها على الوقائع المتعددة بالقدر المناسب في الوقت المناسب عن طريق اختيار الخبرة المناسبة لهذه الواقعة بعينها أو الجمع بين خبرتين أو أكثر للوصول إلى تركيبة تستجيب للتعاطي الحكيم مع ما حصل ووقع هو الإكسير الناجع للحلول الإبداعية والخروج من الأزمات بأقل التكاليف وببعض المكاسب، إنه فن إدارة الأزمات في عصر الأزمات، وللأسف البعض يمتلك الخبرات الكثيرة ولكنها غير منظَّمة ولا مفعَّلة ولا يعرف هو كيف يستخدمها، هذا إذا فكر في ذلك، أو أنه ينزلها في غير منزلها فتسهم في تعقيد الأمور لا في حلها، ومن المهم الفصل الواضح البيّن بين العاطفة والعقل والفرز الذاتي لإملاءات العقل وانفعالات العاطفة ونحن نتناول قضية أو حدثاً ومساعدة من نحاور على ذلك.
ومن الشروط أيضاً تنمية العقل وتغذيته وتقويته، وقد كان القدماء يهتمون بأنواع الأغذية التي تساهم في رفع حدة الفهم أو قوة الحفظ، ويحذرون من أنواع أخرى قد تسهم في خمول العقل وخبوء الحافظة ويتواصون بينهم بأشياء من هذا القبيل، والمهم اليوم إخضاع العقل لتمرينات جادة تفتق مسالكه وتُحدِّث أساليبه وذلك عن طريق التفكير في المتناقضات والتعرض لحل عويص المشكلات، والنظر في تاريخ العلوم وما بينها من تداخل وعلائق، والتمرس في المناهج النقدية وتسليطها على ظواهر اجتماعية والربط بينها، فيستجيب الأدب للاجتماع والاجتماع للسياسة والسياسة للنكتة الذكية وهكذا. وبالنسبة للأطفال فالبيئة مهمة لهم وأنواع الألعاب كذلك ونوع الأسئلة المتداولة في المنزل.
ومن الشروط أيضاً التفريق بين ما يثبت عليه العقل وبين ما يقلِّب فيه أوجه النظر ويخضعه للمتغيرات، وهذه من المهمات الصعبة وهي متى نتمسك برأينا ويكون من الخور التراجع عنه، ومتى لا نكون كذلك بل نعطي مساحة للأخذ والرد في المسألة محل النقاش، فهناك ثوابت ومتغيرات، والعقل المتزن هو الذي يفصل بين القضايا ويضع كل شيء في موضعه الصحيح، فلا يحرك ثابتاً ولا يثبِّت متحركاً، فمغبة الجمود على رأي أو فكرة مع تقادم الزمن تكون لها تكلفة باهظة ونحن في زمن الفرص السريعة الخاطفة المتولدة المتقلبة فمتى نتماسك؟ ومتى نفكر ونأخذ ونعطي؟ وهذه من مهام العقل الذي كما أسلفنا يتوازن مع القلب.
ومن الشروط أيضاً التوازن بين التعميم والتخصيص، فالعقل يميل للتعميم لأنه أقل كلفة وأسهل في التعاطي مع ما يفكر فيه، وفي مواقع التواصل اليوم الجميع يعمم ويطلق الأحكام العامة بشكل فج وهذا يتنافى مع الدقة والمصداقية، ويتذرع بعضهم بالاستقراء لوقائع كثيرة بنى عليها أحكامه، ونقول هل استقراؤك كفرد كافٍ لإطلاق هذا الحكم العام ولماذا لا تجهد نفسك قليلاً وتدرس المسألة دراسة جادة، مستخدماً الأدوات الإحصائية لتصل لنتائج أكثر تخصيصاً واستثناءً ودقة متوازناً في ذلك بين ما حقه التعميم دائماً وبين ما حقه البحث والنظر والتقصي وقول «ربما، ويمكن، وقد يكون، وباستثناء، وبنسبة كذا تقريباً ؟!».
ومع الذي مر فلا بد من التنُّبه لعوامل تشكيل العقل ونموه وتغيره وتعاطيه مع الأشياء ومع الناس، فعقول الناس متفاوتة وخاضعة لعوامل بيئية ووراثية وتكوينية، بل وللأحداث الكبار التي تنشأ فيها تلك العقلية أثر بالغ، فالذين عاشوا في كنف إحدى الحربين العالميتين أو في الثورة الفرنسية أو في موجة إيديولوجية عارمة كالشيوعية أو النازية أو الفاشية أو في عصر النهضة العربية أو أيام النكسة أو النكبة وتشكلت عقولهم وتفتحت على ما شابه ذلك صمتت عقولهم على مسارات في الوعي والتفهم وتمحيص المعلومات بطريقة معينة تختلف عن الذين عاشوا في قمة النجاح الاقتصادي الأمريكي في نيويورك أو في مرحلة الطفرة وعلى هذا قِس، ولا يعني ذلك أن مجموع أفراد المجتمع كلهم على نسق عقلي واحد فهذا متعذر، ولكن لا بد من أن تجمعهم أطر فكرية ونفسية مجتمعية متشابهة إلى حد كبير، إذن لا تتعجب عندما ترى من يطلق الأحكام جزافاً أو يقطع بصحة أو خطأ أمر ما من دون اطلاع ولا تماس مع هذا الأمر، ولا تتعجب عندما ترى من ينتظر حتى ينتهي الجميع من قول ما لديهم فيعطي حكماً توفيقياً نهائياً يكون مسك الختام أيضاً بلا حجة ولا درس، وإنما هي قوالب فكرية وقواعد منطقية حفظها وحاكم كل الظواهر الجديدة والقديمة لها، أما مسألة تريثه حتى ينتهي الجميع من الإدلاء بآرائهم ليس اعترافاً منه بحقهم في التعاطي مع هذا الشأن وإعطاء رأي فيه، ولكن لأمر ما يرى أنه هو الكبير وهو المرجع وهو القامة العلمية التي تُلخِّص ما انتهى إليه المتحاورون ثم تعطيهم الحل السحري وتخط لهم سبيل الرشاد، كما كان يفعل شيخ القبيلة في غابر الأزمان عندما كان يمسد لحيته برويِّة وينظر النظرات الثاقبة المتفحصة لوجوه المتحدثين حتى إذا ما فرغوا نطق بالحكمة الخالدة التي ترددها العصور، إنه من العسير على كثير من الناس رؤية الأشياء من بعيد ومن جميع الجوانب وبصورة ثلاثية الأبعاد وتقليب النظر فيها والتوازن بين العاطفة والمنطق والعلم والإيديولوجيا وسوابقها ولواحقها وسياقاتها وأسبابها البعيدة والقريبة والقراءة المستفيضة عن هذا الشيء الذي سنعطي فيه رأياً، ومشورة أهل الاختصاص والاطلاع على شيء من تاريخ هذا الشأن كل هذه الممارسات تتيح للعقل أن يتغذى وأن يشحذ، وأن يعمل وأن يقارب الجادة ويحالفه الصواب أو القوة القريبة من الصواب.