د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ربما ظنَّ بعضنا - اتكاءً على المفاهيم، وربما الممارسات - أن التراثَ تركيمٌ جامدٌ يدور في المسار الشرعيّ واللغويِّ فقط، ويُعنى به ثلةٌ من الباحثين التقليديين الغارقين في ذاكرة الأمس ووثائقه وأوراقه الصُّفر ممن عزلوا أنفسهم عن النهج المعرفيّ المتواصل مع العصر، وفي بعض هذا ترتسمُ ظلالُ صورةٍ نمطيةٍ لها ما يبررُها من جانب وينفيها من جوانب؛ فالتراث شموليٌ يتجاوزُ قيودَه أو تقييدَه بما يتوازى مع ما تحويه الكتبُ الحديثة، بل والحداثية؛ ففيه الفلسفةُ والمنطق والأخلاق والفلك والنجوم والعلوم التطبيقية والبحتة، عدا العقائد والمذاهب والملل والنحل بما فيها الإلحاد، بجانب الفكاهة واللهو والمجون والأمثال والأساطير، إضافةً إلى الشعر والأدب والتأريخ والبلدان والآثار، وسواها بما يُجسِّر المسافة بين التراث الثريّ والناظرين إليه بعين مغلقةٍ تتهمه بالتخلف.
** الكُثُر يعرفون هذا، مثلما يدركون التناقض الذي نشهده لدى مناوئي التراث المنكفئين على تقديس التراث الفلسفيّ الإغريقيّ والأوربيّ ومدارسه مستعيدين قرونًا سبقت الزمن العربيّ، ومردِفين بأزمنةٍ تلته، وعائبين على من يستلهم تأريخه وتراثه، وهو ما يقتضي - من منطلق الموضوعية - المساواةَ بينهما على الأقل، ولن نتحدث هنا عن الهُويّة والانتماء؛ فالمعرفة وطنٌ يسكنه الجميع وليس محطاتٍ إقليميةً تُقفل حدودَها أمام الغرباء.
** القضية هنا لا تمسُّ الريادة ولا السيادة، بل الخُلُق العلمي، على أساس أن المعارف لغة محايدة قابلة للصحة والخطأ، والحسن والسيّئ؛ فمن اخترع الدواء مصطفٌ بجانب من نشر الأدواء، والذي توفّرت جهوده لخدمة البشر غيرُ ناءٍ عمّن يسعى للإضرار بهم، ومعادلة «العلماء والعملاء» تسكنُ الأذهان منذ الأزل.
** بمثل هذه الثنائية استلهم أبو القاسم الشابي في قصيدته الذائعة: (سأعيش رغم الداء والأعداء..) الرؤيتين التراثيتين: العربية والإغريقية، وعنون نصَّه بـ(نشيد الجبَّار) أو: (هكذا غنَّى بروميثيوس) ملمحًا إلى بطل أسطوري سرق صاعقةً وأوقد منها قبسًا أوجد النار التي تُدفئُ وتحرق، وتنيرُ وتغذي، وكانت فاتحةً للعلم في أعصرٍ ومأساةً في أعصر أخرى، حتى قال السياسي الفرنسي جوزيف كايو 1863- 1944م: «قيِّدوا بروميثيوس وأوقفوا تيارَ العلم».
** قال الشابي:
النورُ في قلبي وبين جوانحي
فعلامَ أخشى السيرَ في الظلماءِ
وقال:
إن المعاولَ لا تهدُّ مناكبي
والنارُ لا تأتي على أعضائي
** لا جديد في عنواني القصيدة، وربما نسيه من عُنوابها وقت ذيوعها، والتراث مليءٌ بأمثالها، ولم يضف إليها «الجبَّار ولا بروميثيوس» انتشارًا، كما لم يكن الشابيُّ مستلبًا للعتبات المقتربة والمغتربة، والأقربُ أنه تقليدٌ عفويٌ لا يقف خلفه فكرٌ انبهاريٌ أو تفكيرٌ تسويقي، وكذا تحكمنا ثنائيات متضادة تجعلنا موقنين أن العقلَ الهانئَ يتعايشُ مع كليهما دون شعورٍ بالقلق.
** يبقى التراثُ امتدادًا لا ارتدادًا، وفيه ما يحفزُ العقل وفيه ما يُطفئه، ومن وعاه وعى درسه ومن نعاه فإنما نعى نفسَه.
** التنوعُ غِنى.