حسن اليمني
تتخبّط المفاهيم حينما تتناطح في دائرة ضيقة وسط محيط واسع متلاطم من الحقائق ليصبح الوضع أشبه بمركبة عملاقة في بحر هاج أمواجه الريح الشديد.
كل شيء تقريبًا في عصرنا الحاضر المختنق بالعلم والمعلومة وصور الأحداث المجردة من الابهام والتدليس تجعل العقل حائراً مشتتاً بين ما يعتقد ويؤمن به وبين ما يظهر من حقائق تخالف هذا الاعتقاد والإيمان.
مثال بسيط حاضر مشهود للجميع قد يساعد في شرح الصورة لمعنى تخبّط المفاهيم وهو (فيروس كورونا ولقاحاته) فظهور هذا الفيروس بادئ ذي بدء رسم في الأذهان مؤامرة ضد الإنسان ثم وحين ظهرت لقاحات عد أيضاً مؤامرة لقتل البشرية أو تحوير جيناتهم, حتى وزعماء دولة كثيرة تعمدوا إظهار صورهم «الحيّة» وهم يتلقون اللقاح لتبديد القلق والخوف الذي انتشر واتسع بين البشر هو أيضاً عد تمثيلاً وحاز نصيباً كبيراً من التشكيك بصحته.
ظهور الأمراض بين حين وآخر على مر التاريخ حقيقة متفق عليها كما أن وجود مضادات وعلاج لهذه الأمراض إنجاز علمي صار شبه طبيعي ومعتاد فما الذي أدخل الرعب والخوف في بعض العقول هذه المرة؟
بالتأكيد ليس الجهل بل الطامة التي لخبطت المفاهيم والعقول هو تقدم العلم والوعي وكأنه فاض عن حدّه المفترض وصار شر يُحذر منه ويحتاط عنه بالتشكيك والتدقيق في ما وراءه وما حوله, وهذا في الواقع حقيقة ما أصبح اليوم يختضم في العقول والمفاهيم بين الناس ليس في مجتمع ما من المجتمعات بل انبسط على سائر البشر من كل الأمم.
نعم إنها الحقيقة التي أصبحت اليوم مرعبة بفعلها في تفتيق الفهم والعقل البشري فيما يرى ويشاهد, اخطبوط عفريت ذو شكل مرعب يعبث بعقول وفهم البشر في معتقداته وقناعاته ومألوفة واعتياده, وفي نفس الوقت هي تقنية إلكترونية تجاوزت كل رتم مألوف ومعتاد عبر أجيال تناقلته من أجيال لتسوقهم اليوم إلى رقعة واحدة في فضاء الفهم والوعي, الفهم والوعي للإنسان هو آلة أو محرك الطمأنينة والاستقرار في النفس, وحين تتشابك هذه الآلات والمحركات مع بعضها بتروسها وأسنانها تصبح الحقائق محل نظر.
إن ما نعايشه اليوم من تناقض وتصادم في المفاهيم والرؤية حول كل شيء تقريبًا بما في ذلك الثوابت والمسلمات الراسخة في الأذهان علامة فاصلة في حياة البشر, لا أتحدث عن مجتمع أو أمة معينة بل عن إنسان هذا العالم كله, لقد استبدلت الجيوش حشو البنادق بالبارود إلى حشو الهواء بالذرات الكهرومغناطيسية لتدمير آليات العدو فيما يعرف اليوم بالجيل الخامس للآلة العسكرية, ذات الفعل أي حشو الهواء بالذبذبات الإلكترونية والكهرومغناطيسية وغيرها هو ذاته ما يستخدم اليوم أيضاً في حشو العقول والأفكار في آليات الفهم والوعي في الإنسان, قفزة علمية تقنية جعلت ما قبل راهن وقتنا عالم لا يمت لحاضر اليوم بصلة.
ليس مهمًا إلى أين نمضي أو إلى أين تمضي البشرية فهذا أمر لا قدرة لنا على معالجته أو تداركه, فعظمة وقوة الخالق جل وعلا ليست محدودة والعلم الذي وصل إليه الإنسان برغم علو شأوه ليس إلا فتات فلا عجب ولا استغراب أن يأتي يوم نرى فيه (أحفادنا) يطيرون في الفضاء بلا أجنحة ويسبحون في الرمال ويتنفسون في عمق البحر ويتحدثون مع الصخر وينامون على ماء النار, إن استسخف عقلك هذه الصور الخرافية فليس عليك إلا أن تستبدل الكلمة التي وضعتها بين قوسين (أحفادنا) وتكتب بدلاً عنها (أفكارنا, أذهاننا, مفاهيمنا) أو ما شئت لتدرك ما أريد قوله لو لا أني أعجز عن فهمه.