رمضان جريدي العنزي
الطريق من الرياض نحو المدن الغربية التي قصدناها بارد وماطر وبهي. برودة الجو تجبرك على الصمت أحيانًا، والركون إلى التأمل، حيث إبداع الخالق. رومانسية الطقس أخاذة، تدخل الروح فتحيلها محلقة في السماء كأنها طير صغير، زخات المطر والغيم الكثيف وصديقي (فواز) أمتعوا الطريق، أحضروا اللغة والتعبير، وأشعلوا البوح والنشيد. النهار يوشك على الرحيل، ولون الشمس يميل نحو الاحمرار، حيث وادٍ عميق طويل، يجري بمحاذاة (الطائف). نزلنا لنطل عليه، حيث البرد يفترسنا كأننا طرائد، ورغم ذلك فإن البهجة تقبع في أرواحنا وتستكين. فواز وأنا حينها كنا نحلق بأفكارنا نحو مدارات واسعة، نصعد وننزل، عبر رؤى تبدو جميلة وأنيسة. هي الحياة حديقة نظرة من الخيال والتأمل والسفر، تمامًا مثل لون الربيع وبهجته، في الليل حيث سوق الطائف العتيق مشينا في ساحاته وممراته، حيث صوت الباعة وحركة المشترين والباحثين عن مقتنيات جديدة أو شيء من هذا القبيل. أرواحنا حينها امتلأت بالنقاء المذهل مثل ورقة خريف عادت للونها الأخضر الجميل. يغريني التجول في مثل هذه الأمكنة العتيقة؛ إذ يمكن قطف فكرة، والتمتع بخواص متفردة باتجاه عالم مذهل، هناك حيث تزهر الحياة، وتترقرق بوداعة متمازجة مع شجرة الأفكار الكبيرة، وحيث الأصوات المختلطة التي توقظ القلب، وتنطلق به نحو فضاءات واسعة، وحيث الحياة تصبح جديدة ومستدامة، وحيث كل شيء يضحك مع الروح. عند (ضحوي)، الرجل العجيب والمغاير في كل شيء، استرحنا كمحارب قديم أنهكته الحرب، وأصم أذنيه صوت المدافع، وأزيز البنادق، كل شيء عنده ينمو على أرض واحدة، عنده الحزن يسقط، والفرح ينبت، وجهه دائمًا مكشوف، ولا يحب ارتداء الأقنعة، ملامحه صارمة، لكن حركاته طفولية، وبراءته عالية، يعمل ما يروق له، لا ما يروق لغيره، الحياة عنده ليست لعبة بائسة، لكنه يجيد اللعب معها بفرح وسرور واشتهاء، عنده ما فات ولّى، وفي كل يوم ينهض من جديد، ليس نهوضًا على أعتاب الماضي، لكنه نهوض جديد، ونهوض من نوع خاص، لا يتكئ على غيره، سوى على بذرة إنسانية كبيرة، نمت في داخله منذ الولادة، جعلها تنمو وتعهدها بالسقيا المعجون من محبة وشفافية وبياض. في اليوم التالي واصلنا رحلتنا حيث (مكة المكرمة) عن طريق (الهدى) ذات الطريق الملتوي كحبال صيد أو كعروق معدنية. في مكة أنخنا عندها راحلتنا لنتزود بها من عطاءات الله الكثيرة، ونتنفس شذى رحماته العظيمة، وعفوه الجزي، وصفحه. بجوار الكعبة المشرفة حلقت بنا الروحانية المغايرة، وفرحت قلوبنا حتى لكأننا وُلدنا للتو. شعرنا بأشياء جميلة تزهر في أرواحنا كوردة. هناك، وخلال الطواف حيث اللحظة لغة مطلقة، والتألق والتطلع ميزة البصيرة الأبدية، تنطلق الروح لتشرب ما ينتجه الإيمان العميق من رحيق بطعم العسل. كل شيء هناك يدعوك للتأمل والتبصر وتكثيف الدعاء. ودعنا مكة باتجاه (جدة) حيث البحر والقمر والنوارس والدوارات الأنيقة وشاشات العرض الكبيرة. جدة كل بعد حين تزدان وتتلألأ، وتتطرز بالحسن والجمال؛ لهذا تجبرك على زيارتها مرات ومرات، مثل عاشق ولهان. في اليوم التالي توجهنا لـ(المدينة المنورة) حيث الهدوء والسكينة والسلام والدعة، والروح تغتسل بالروحانية المطلقة، مثل نجمة في السماء، ودالية عنب وماء. في المسجد النبوي الشريف تفيض السكينة على الوجود حنانًا، وعلى الربى والسهل والوديان، والصلاة فيه على نبينا دائمًا لنا حالة وعنوان. ساحات المسجد النبوي الشريف تسبح في نور وأطياف وحركة لطيفة، ولا شيء يعكر الصفو والمزاج، صوت الأذان مملوء بوداعة طافحة، وهو يمخر عباب الفضاء اللامتناهٍ. السماء هناك شديدة الزرقة، والهواء عليل، والروحانية كاملة، فأي سعادة أن تقضي بعض الوقت هناك عبادةً وتقربًا ودعاء. عدنا بعدها إلى (الرياض) بؤبؤ العين، وريحانة القلب، وصنو الروح، عظمي وجلدي، حبري ورسمي وحرفي، صباي شبابي وركضي، ذاكرتي والمكان.