د.فوزية أبو خالد
يشغل سؤال الأمن الوطني داخلياً وخارجياً الشعوب والدول على حد سواء، فهو في حقيقته سؤال وجودي مصيري بالنسبة لطرفي معادلة العمران البشري المعاصر القائم اليوم على المسؤولية المشتركة بين الدولة والمجتمع، وليس على أحدهما دون الآخر، في تحري متطلبات هذا الأمن، وفي تحديدها، وفي تخير آلياتها، وانتخاب أدواتها، وفي العمل على جعله حقيقة معاشة.
والواقع أنه لا يتوقف على سؤال الأمن في شراكته بين الدولة والمجتمع مسألة البقاء وحسب، بل يتوقف عليه حالة هذا البقاء وكيفيته وشكله، فالبقاء الضعيف للدول والمجتمعات غير البقاء المنيع، والبقاء المتحقق بعزوة ذاتية وبقدرات الذات غير البقاء المتوقف على قدرات الغير أو نخوة التحالفات وتذبذب العرض والطلب.
إلا أن هذا السؤال على مصيرتيه كان ولا يزال يواجه عدة تحديات داخلية وخارجية في المجال المحدد الذي يعنينا هنا. وفي اجتهادي أن من أهم هذه التحديات التالي:
تحدي ميزان القوى الدولي:
فالسؤال الأمني على أهميته القصوى لبقاء الدول والمجتمعات بقاءً كريماً يواجه عرقلة في ميزان القوى العالمي عندما يتعلق الأمر بالأوطان التي تقع في دائرة مصالح القوى الدولية صاحبة الهيمنة على هذا الميزان، لتبقى تلك الأوطان في مدار جاذبيتها السياسية والعسكرية معاً، إن لم يكن تحت رحمة ميولها السياسية ومواقفها الحزبية كاستعار القراءات التكهنية لسياسة أمريكا الخارجية بمجيء أو ذهاب الحزب الديموقراطي أو الجمهوري. غير أن من أوضح أمثلة هذا التحدي هو مسار العلاقة التاريخية بين البلدان العربية وبين العالم الغربي، وعلى رأسه الولايات الأمريكية المتحدة منذ مطلع القرن الماضي إلى اليوم المقترب من نهاية الربع الأول من القرن الحالي. فعلى الرغم من الاستنزاف المالي الكبير الذي يذهب من موازنات الشعوب إلى خزائن الدول الصناعية الكبر ى في الصرف على شراء المعدات العسكرية من قبل عدد من الدول العربية، فإن ذلك لم يجعل تلك الدول تتسامح في أن يرتفع سقف القدرات العسكرية لتلك الدول إلى الحد الذي يمكن أن يشكل أي خطر على المواقع العسكري الوازن لدولة إسرائيل ذات الاستعمار الاستيطاني بالمنطقة. كما لم تتسامح بجعله يؤدي بها إلى الاستقلال العسكري والاعتماد الذاتي على قدراتها في تأمين أمنها الخارجي.
التحدي الإقليمي:
التحدي الثاني الذي يواجه سؤال الأمن المصيري للمنطقة العربية عموماً ودول الخليج والسعودية بشكل خاص، هو تحدي الصراع الإقليمي تاريخياً مع استشرائه اليوم. وإذا كانت دولة إسرائيل ذات الاستعمار الاستيطاني التوسعي قد شكلت رأس الجليد الجلي لتحدي محاربة البقاء العربي المنيع بل منع تكوينه، ولم ولن تقل خطورة، فإن بقية جسد جبل الجليد الإقليمي لا يقل تحدياً وخطورة. ويتمثل ذلك راهناً في تحديين مركبين. من ناحية كشف النظام التركي عن أنياب شهوة التوسع والقيادة الإقليمية خاصة بعد انخطافات الربيع وانهيارات أنظمة عربية في الجوار القريب منها والبعيد عنها معاً، وبعد استقواء البعض بها.
ومن الناحية الأسبق يتمثل هذا التحدي الخطر والبشع في عدوانية النظام الطائفي الانعزالي بإيران ووحشيته العسكرية التي لم تكف يوماً منذ اللحظة الأولى لقيام ثورته الإسلامية المزعومة بوحشيتها وميليشياتها عن تشكيل النقيض الموضوعي للسلام الإقليمي والعدو الأكبر لأمن دول جوارها القريب والبعيد أيضاً، وخاصة عبر الاستغلال العسكري الميليشي المنظم لخواصره الرخوة عبر قواه العميلة لها كالحوثي وحزب الله والهولاكو بشار.
تحدي العسكرة الداخلي:
التحدي الثالث وليس الأخير هو التحدي الداخلي، فسؤال تحدي البقاء ببناء منعة عسكرية غالباً ما شكل إشكالية معقدة ومربكة في البلدان العربية على المستوى الداخلي، فهناك أمثلة لبناءات عسكرية حولت بعض الدول العربية إلى جحيم محلي بتحول بعض تلك الدول إلى دول بوليسية واستخبارية متوحشة، وأكبر أمثلتها في التاريخ المعاصر نظام البعث في العراق وسوريا/ نظام صدام ونظام الأسد سابقاً ونظام بشار حالياً، وأمثلة أخرى لا تقل بشاعة في أنظمة عجزت عن خلق بنية سياسية واجتماعية دستورياً وقانونياً وعلاقة عادلة بين المجتمع والدولة تمنع التغول العسكري داخل المجتمع الذي كان يفترض أن يتحقق له الأمن ببناء المنعة العسكرية الذاتية على أرضه ضد ضراوة الخارج وتهديدات الاعتداء الخارجي لا ضد ذاته وقواه المدنية السلمية.
مكانة المملكة إقليمياً ودولياً:
على أن هذه التحديات لا بد من قراءتها قراءة عميقة وليست قراءة تلميحية مبتسرة كما جاء في هذا المقال، وذلك لفهمها ومعرفة كيفية مواجهة كل منها بالتفصيل، بهدف تجاوزها وسواها لبناء قوة أمنية بناءة تمنح البلد المعني المنعة أمام قوى الخارج لتتفرغ القوى الوطنية المدنية بناء الداخل في أمن وسلام، فنحن بالمملكة العربية السعودية اليوم نعيش في عالم متغير دولياً ومُعادَى إقليمياً، وفي انهيارات عربية متسارعة بما يجعلنا بحاجة للتصدي لسؤال الأمن الوطني الخارجي بلحمة وطنية وبشراكات موسعة مع ألوان الطيف الاجتماعي كافة، وبحسم الأمر على تعزيز بناء قوة عسكرية ذاتية تمنح المملكة المنعة الإقليمية والدولية التي تستحقها. فمع سلمية المملكة التاريخية وانشغالها بالسؤال التنموي وبالعلاقات الجوارية الطيبة و»الترضوية»، فإن امتلاك القدرة على المواجهة الخارجية والقدرة على الحرب القادرة على الحسم في لحظات المحاق المحيط قد تكون هي السر الصغير والكلمة السحرية لفرض شروط السلام وتعميم شمسه علينا جميعاً وعلى المحيط العربي والإقليمي والعالم.