بعد أيام قليلة سنستقبل شهراً كريماً وموسماً عظيماً، ألا وهو شهر رمضان؛ فلنحمد الله -عز وجل- على وافر فضله، وسابغ نعمه {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
وهذا الشهر الكريم ينتظره الناس بفارق الصبر؛ فهو موسم تضاعف فيه الأجور والحسنات، وتقال فيه العثرات، وتُمحى السيئات، ويكثر الجود والإحسان إلى الخلق.. فقد جاء في الحديث أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضان، فيُدارسه القرآن. فرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين يلقاه جبريل (أجود بالخير منَ الرِّيح المُرْسَلة).
وعلى الرغم من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أجود الناس إلا أنه كان يضاعف الجود في رمضان، ويسارع إلى الخير، ويغتنم فضيلة الوقت، وشرف الزَّمان، فلماذا لا نتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجود والإنفاق على الفقراء والمحتاجين في هذا الشهر؟!! ولاسيما أن أبواب الخير قد فتحت، ونادى المنادي: يا باغي الخير أقبلْ.. فالواجب علينا أن نتأسى به -صلى الله عليه وسلم- ونحن في ليالي العتق من النيران، وقد فتحت أبواب الجنة، وصفدت الشياطين، وأصبحت النفوس مقبلة على الخير، إلا أن البعض ينشغل عن هذه النفحات بترك الواجبات والركون إلى الملهيات.
إن الجود ليس كما يحصره البعض في الإنفاق على المحتاجين بالمال وإن كان ذلك يدخل في معاني الجود إلا أنه - كما ذكر شيخ الإسلام ابن القيم - له عشر مراتب:
1) الجود بالنفس، وهو أعلى مراتبه، كما قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضَنَّ البخيل بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
2) الجود بالرياسة، وهو ثاني مراتب الجود.
3) الجود براحته ورفاهيته، وإجمام نفسه، فيجود بها تعبًا وكدّا في مصلحة غيره، ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامِرِه، كما قيل:
مُتَيَّمٌ بالنَّدى، لو قال سائله
هب لي جميع كَرَى عينيك، لم يَنَمِ
4) الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال.
5) الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل ونحوه؛ وذلك زكاة الجاه المطالَبُ بها العبد، كما أن التعليم وبَذْلَ العلم زكاته.
6) الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته، فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشي بها الرجل إلى الصلاة صدقة، ويُميط الأذى عن الطريق صدقة) متفق عليه.
7) الجود بالعرض (أن يتصدق بعرضه ويسامح من شتمه أو قذفه).
8) الجود بالصبر، والاحتمال، والإغضاء {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
9) الجود بالخُلُق والبِشر والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر، والاحتمال والعفو، قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه).
10) الجود بتركه ما في أيدي الناس، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحاله، ولا لسانه.
فهذه أنواع الجود ومراتبه. فالجود يكون بالنّفس وبالمال، وبالعلم وبالجاه، وبالخلق وبالعرض، وبالصَّبر واحتمال الأذى.
فرمضان شهر الصدقات والهبات، فلنعد أنفسنا ونطهرها بفعل الطاعات من تفطير للصائمين، وتطهير ألسنتنا من اللغو والرفث وقول الزُّور وشهادة الزُّور، ومعاملة النَّاس بخلق حسن. كما يجب في هذا الشهر أن نرحم الضعفاء، وندخل السرور والفرحة عليهم.
وتقبل الله منكم الصيام والقيام.