رجاء العتيبي
الظاهرة الأسطورية في اليونان في القرن الخامس ق. م أنتجت لنا مسرحيات تعتمد على الأسطورة، مثل: مسرحية الضارعات لأسخوليوس، وأوديب لسوفولكليس، وغيرها الكثير؛ لهذا جاءت مسرحية أوديب بوصفها بنية صغرى، ضمن بنية أكبر = الظاهرة الأسطورية التي سيطرت على التفكير والحياة والمسرح في اليونان لأربعة قرون تقريبًا. ولم تأتِ هذه الظاهرة عند أي مجتمع آخر سوى اليونان بشكلها وتفاصيلها، حتى الأساطير في المجتمعات الأخرى لم تكن بتلك الكثافة التي كانت عليها عند اليونان، ولا بذاك التفاعل والإنتاج.
وهذا المعنى أشار له غولدمان في معرض حديثه عن البنيوية التكوينية أن أي بنية ثقافية أو أدبية لا بد أن تتخذ لها موقعًا في بنية اجتماعية وثقافية سائدة، فالتكوين المعرفي هو الذي ينتج البنى الصغرى، سواء على شكل مسرحيات أو أغانٍ أو رقص، وهذا الذي جعل تجربة (المسرح الاحتفالي) عند المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد تتوقف؛ لأنها لم تأتِ ضمن ظاهرة تلقائية سائدة، كانت مشروعًا شخصيًّا، صممه بنفسه. ورغم أهميته إلا أنه لم يحظَ باهتمام يتناسب مع أهمية التجربة وتفردها.
الظواهر الثقافية والاجتماعية التي عادة ما تأتي بصورة تلقائية هي التي تنتج مسرحياتها وأدبها، وقد تؤثر هذه الظواهر في مجتمعات أخرى متخطية حدودها عبر القارات إلى مناطق جديدة، ولكن المواقع الجديدة لا تتلقاها كما هي في موقعها الأصلي؛ لأن الأمر يتعلق بـ(بنية)، والبنية ترتبط ببعضها عبر علائق تتكامل فيما بينها. فالعلائق في المجتمعات التي تسافر لها الظاهرة لا تتمتع بالوظائف نفسها في موقعها الأصلي؛ لهذا تموت (النظرية) في مجتمعات غير مجتمعها؛ فالفكرة بنيوية أكثر من كونها شيئًا آخر.
أما الذي ينتج الظاهرة فهي التحولات الاجتماعية التي نراها بوضوح كل عقد من الزمان. واللغة هي التي تشكلها؛ لأننا نعي الوجود باللغة، كما أشار إلى ذلك هايدجر، اللغة هي التي تكون الوجود؛ لهذا لكل سياقات جديدة (كلام) نعبّر به من خلاله، فكلامنا غير كلام الأجداد، داخل نظام لغوي واحد، قطعًا كلامنا سيتغيّر؛ لأن السياقات تغيّرت؛ لهذا لم تظهر لدينا مسرحيات العبث، ولا السيريالية ولا التكعيبية ولا التعبيرية؛ لأن سياقنا لم ينتج كلامًا (مسرحيات) بمثل هذه الموضوعات، بقدر ما أنتجتها سياقات مرت على أوروبا من ضمنها الاقتصاد والحروب وتبدل السياسات والقيم والمعايير والأخلاق.
عندما هيمنت الظاهرة الدينية في العصور الوسطى أنتجت المسرح الديني، وكذلك الحال عندنا في زمن الصحوة، بجانبه مسرح آخر يتقاطع مع الحداثة، والسوشال ميديا.
المسرح يتفاعل مع الظواهر الكبرى السائدة، ولكن (المسرح المرتبط بالمؤسسات الحكومية) يظل جامدًا ولا يتفاعل مع الظواهر الكبرى. المؤسسات تعيق حيوية المسرح وتغيره، وتصد تفاعله مع الظواهر العالمية. يصبح مغيبًا عما يحدث حوله.