د.سالم الكتبي
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية منتصف العام الجاري، تدخل أزمة الملف النووي الإيراني منعطفاً أكثر تعقيداً في ظل عاملين مهمين أولهما تردد إدارة الرئيس جو بايدن بين التعامل مع الرئيس حسن روحاني قبل رحيله، وبين التريث وانتظار رئيس جديد ربما يقدم على إقناع المرشد الأعلى علي خامنئي بتقديم تنازلات أكبر تدعم فرص نجاحه طيلة سنوات رئاسته الأربع، والعامل الثاني يتعلق بالمشهد الإيراني المنقسم على ذاته، حيث تحولت الأزمة إلى أحد أبرز موضوعات التنافس الانتخابي، ومادة خصبة للمزايدات السياسية التي يتجه معظمها إلى التشدد، بما يجعل من الصعب إتمام أي «صفقة» مع الولايات المتحدة في ظل هذه الأجواء المشحونة.
مؤخراً عكست تصريحات للرئيس حسن روحاني مدى غضبه من سياسات إدارة الرئيس بايدن التي راهن عليها من أجل الخروج من هذه الأزمة، حيث قال روحاني إن الإدارة الأمريكية الحالية تواصل سياسة «الضغوط القصوى» التي اتبعها الرئيس السابق دونالد ترامب في التعامل مع الملف النووي، وأضاف أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن «تتكلم كثيراً»، لكنها لم تتخذ أي خطوة عملية وجدية بشأن رفع العقوبات التي فرضتها واشنطن بسبب ملف إيران النووي، مشيراً إلى أن إدارة بايدن تمارس نفس سياسة الضغوط القصوى التي وضعها ترامب لكن بأسلوب آخر.
واللافت أن الرئيس الإيراني قد أبدى - ضمن تصريحاته - استعداد بلاده للتراجع خلال يوم واحد عن كل الخطوات التي اتخذتها حيال الاتفاق النووي -التي يراها المجتمع الدولي خرقا للاتفاق- في حال وجود إرادة أمريكية جدية تتخذ قراراً برفع العقوبات، والعبارة الأخيرة تحديداً تعكس رغبة روحاني الكبيرة في حلحلة الأزمة رغم أن تصريحه لم يخرج بعيداً عن معضلة المشهد الراهن التي تتعلق بمن يتنازل ويتراجع عن موقفه أولاً: نظام الملالي أم الولايات المتحدة؟
وكما سبق أن أشرنا مراراً، فالرئيس روحاني جزء من نظام الملالي، والتنافس الانتخابي لايمضي على النسق الديمقراطي الغربي، بمعنى أن المستبعد تماماً أن يغرد أحدهم خارج السرب حتى لو كان في نهاية ولايته الرئاسية، وبالتالي فتصريحاته تؤكد رغبة رأس النظام (المرشد الأعلى) في التوصل بسرعة إلى تسوية تنهي العقوبات الأمريكية الصارمة، وذلك سعياً لتحقيق هدف حيوي للغاية لدى الملالي، وأقصد هنا مسألة الإقبال الشعبي على صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية المقبلة، خلال شهر يونيو المقبل، حيث يُنظر النظام لنسب التصويت باعتبارها مصدر الشرعية الدستورية الأساسي للبقاء والاستمرار.
في الحادي والعشرين من مارس الماضي، حدّد المرشد الإيراني علي خامنئي سياسة بلاده بشأن أزمة الملف النووي قائلاً: «على الأمريكيين رفع جميع العقوبات» قبل أن تستأنف طهران الامتثال، وقال خامنئي: «إذا ألغيت العقوبات حقا، فسنعود إلى التزاماتنا دون أي مشاكل لدينا الكثير من الصبر ولسنا في عجلة من أمرنا»، ورغم هذا الموقف فإن هناك تسريبات إعلامية نقلت عن مسؤولين غربيين قولهم: إن إدارة بايدن وإيران تواصلتا بشكل غير مباشر عبر الأطراف الأوروبية في الاتفاق (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) وتعثرت المحاولات آنذاك، ولكنهم يعتقدون أن طهران تريد الآن مناقشة خطة أوسع للعودة إلى الاتفاق، وهو أمر تريده واشنطن أيضاًَ.
التقارير الإعلامية توحي بأن ثمة سوء فهم قد حدث الفترة الماضية بشأن أولوية الامتثال للاتفاق النووي، حيث تحدث المسؤولون الأمريكيون في البداية عن ضرورة استئناف نظام الملالي لالتزاماتهم الواردة في الاتفاق النووي أولاً قبل أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات، ولكن هؤلاء المسؤولين عادوا وأوضحوا أن المشكلة ليست فيمن يتخذ الخطوة الأولى، ويبدو أن هذا التكتيك الأمريكي كان يستهدف انتزاع تنازلات إيرانية قبل المرحلة الأخيرة للانتخابات الرئاسية، وهو مافشلوا في تحقيقه حتى الآن.
وقد أشار بعض المسؤولين الأمريكيين في تصريحات صحفية إلى أن إدارة بايدن «تعاني من أجل فهم كيف يريد الإيرانيون المضي قدما وتعتقد أن عدم الوضوح يرجع جزئياً إلى الانقسامات داخل القيادة الإيرانية» ويبدو أن هذا الانقسام يعود جزئياً لظروف الانتخابات وكبر سن المرشد وظروفه المرضية وصعوبة سيطرته على المشهد كما كان في السابق.
كل ماسبق، يوحي بحجم الارتباك الحاصل في المشهد الإيراني - الأمريكي، وبالتالي صعوبة بناء توقعات معتبرة حول المدى المنظور لهذه الأزمة، وهذا الأمر يعود جزئياً إلى غياب التواصل المباشر، حيث تخضع تقديرات المواقف إلى رؤية وفهم الوسطاء الأوروبيين في غالب الأحوال، ولكن هذا لا ينفي أن الطرفين - الإيراني والأمريكي قد راهنا على مسألة الوقت، بإظهار أنهما ليسا في عجلة من أمرهما، ولكن الأمر انتهى إلى جمود لن ينتهي - على الأرجح - قبل الإعلان عن رئيس إيراني جديد. وفي جميع الأحوال فإن هناك شواهد قوية تؤكد أن الولايات المتحدة قد عرضت جدياً مخارج تنهي الأزمة مثل العودة المتزامنة لالتزام كامل ببنود الاتفاق النووي، حيث نقل موقع «أكسيوس» الإخباري نقلا عن مسؤولين أمريكيين أن إدارة الرئيس بايدن أبلغت إيران أنها مستعدة للقيام بخطوات أولى على أساس متبادل، أو أن يعود الطرفان إلى التزام كامل ببنود الاتفاق النووي، وهو ماتؤكده تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الروسي لافروف وقال فيها: إن هناك فرصا للتوصل إلى حل وسط بشأن الاتفاق النووي مع إيران، وأن الإدارة الأمريكية الجديدة تُرسل «إشارات تبعث على التفاؤل» حول هذا الموضوع.