أ.د.عثمان بن صالح العامر
صباح يوم السبت المنصرم 21 شعبان 1442هـ توفي جدي عميد أسرتنا وعنوان جودنا وكرمنا ورمز اجتماعنا وتواصلنا (سعد بن عامر آل عامر) -رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ورزقنا الصبر والسلوان- {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، اللَّهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.
كان موعد الصلاة عليه -رحمه الله- الساعة 4.30 عصراً، وقفت الجموع مصطفةً تنتظر وصول سيارة نقل الموتى وإنزال الجنازة لتؤدي جماعة الصلاة المشروعة على الميت في الإسلام. التفت لحظتها - وأنا واقف وسط صفوف الأحياء في مدينة الموتى - أتأمل طوابير الراحلين وحال المدفونين.. ألقيت على من هم في الأجداث تحية الإسلام ذات الدلالات العميقة والحيَّة في النفوس الكسلى المستكينة.. مددت بصري أتفرّس في جنبات القبر الذي سيضمني يوماً ما.. حاولت لحظة الصمت هذه أن أسبر أغوار الأرض لأفتش عن مكنونات تلك الأجساد وهي وحيدة فريدة تحت الثرى بلا فراش أو غطاء.
اااااه .. إن لصمت القبور لغة.. ولتشييع الجنازة معنى.. ولقوافل الراحلين ألف حكاية وحكاية.. عرفها وتأمل في مدلولاتها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ}، ولذا قرأوا الدنيا قراءة تختلف عن قراءتنا نحن لها، ولا أدري كم هي المسافة التي تفصلنا عنهم إلا أن صمتهم وهم تحت الأرض يقول لي إننا جزماً سنلتزم الصمت يوماً ما، وسنعرف حينها كيف كان يجب علينا أن نتعامل مع تلك الفرصة الثمينة التي كانت بين أيدينا بحرص وفطنة وحنكة وذكاء، ولكننا أضعناها للأسف الشديد!
إنني كلما مرت بي جنازة، أو سمعت عن حادثة موت، أو رويت لي قصص الراحلين عن دنيا الناس.. كلما سردت أمي حكايات النهايات الحزينة التي ذاقت مرارتها يوماً ما.. كلما قرأت في وجوه من أقابلهم في شارع الحياة قلق الموت وخوف الرحيل.. جلست مع نفسي أحاول أن أفهم ذاتي وأن أحلِّل شخصي وأن أجمع شتاتي وأن ألمم شعثي قبل أن تحين ساعة الفراق.. وكلما مرَّ على لساني هذا الدعاء.. كلما.. كلما... انتابني شعور الساجدين، وخوف المستغفرين، ووجل المخبتين، وقرّرت لحظتها الالتزام بسير المتقين.. ولكن سرعان ما تتغيَّر بوصلة حياتي، وتتبدل المواقع عندي، وتختلف الأولويات في حسي، ويلاعبني ويلعب بي طول الأمل، ويساورني ويأسرني بُعد الأجل للأسف الشديد!
القارئ العزيز.. هل وقفت يوماً ما على جزيرة الأطفال في مدينة الموتى، إنها جزيرة عجيبة جداً تحكي لك قصة القدر بكل غرائبه وبأدق تفاصيله.. هل سمعت عن شباب فارقوا عالمنا الأرضي فجأة دون مقدمات وكانوا لحظتها ينتظرون قادم الأيام بعقلية الوفرة لا الندرة، ويتطلعون إلى غد أجمل في هذه الدنيا.. هل تعرف كم هم الأثرياء والوجهاء، الرؤساء والحكام الذين كان الناس يتسابقون على التصوير معهم يمرون بهم اليوم وهم في قبورهم حتى السلام لا يلقونه عليهم. ليس هذا فحسب، بل يمر الرجل على قبر أبيه الذي ما زال يتنعَّم بما ورثّه له بعد موته ولا يلتفت إليه وكأنه لم يكن يوماً ما في عداد الأقوياء المجانين في لهثهم وراء الثراء والأرقام البنكية!
هذه هي الحكاية.. وتلك هي النهايات ولذا تبقى التساؤلات تحوك في النفس وتجبرني على بوح الخاطر هنا، لا لشيء إلا لأننا كلنا ذلك الإنسان الذي يعلم عن أن وراء صمت المقابر ضجيج، وتحت الأرض أسرار، وسيكون هو عن قريب رقم جديد في هذا العالم العجيب، ولكن الهمم تتباين، والران يزيد وينقص كما هو الإيمان في قلب ابن آدم.
قف على المقابر وقفة تفكر، وعش مع تلك الجموع لحظة تأمل وتدبر وستجد أن كثيراً من أوراقك وأرقامك ومشاريعك تتساقط كقطرات ماء بقي على جسدك بعد أن اغتسلت بالصافي الزلال.. حاول أن تضع لحظتها نقطة وتبدأ من أول السطر.. هنا أذكرك ونفسي بأن الصامتين في مدينة الموتى سُئلوا أول دخولهم عالمهم الجديد عن ثلاث (الرب.. والدين.. والنبي) وستسأل أنت كما سُئلوا.. ليس هذا فحسب، بل ستسأل عن أربع (العمر، والمال كسباً وإنفاقاً، والجسد، والعلم) وسيبقى لك ثلاث (الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به، والوالد الصالح الذي يدعو لك).
كم هو جميل أن يلتحق الإنسان بعالم الصامت هذا وقد امتلك الزاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.
صدقوني ليس هذا مقال عن الآخرة فحسب، بل حديث لعمارة الدنيا، وتنمية الأرض، وبناء حضارة إنسان العصر، إذ متى استشعر ابن آدم هذا المشهد وعاش لهذه المرحلة التي جزماً سيمر بها فلن يظلم ويسفك ويحسد ويسرق ويفسد ويكذب و... وبهذا تتحقق النزاهة ويرتفع صوت الأمانة وتحمى الديار وتحفظ الأعراض ويسود الأمن والأمان وتموت الفتن في مهدها ولذا كان من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكِّركم الآخرة)، ومتى تذكَّر إنسان الدنيا عالم المستقبل فسيكون للعقل أقرب، وللشرع ألزم، وللحق أتبع، عندها فلن نحتاج إلى كل هذه الطوابير من المراقبين، وستتفرق صفوف الناقدين، وستذهب جموع المحاسبين، فالضمير حي، واستشعار مراقبته الله موجود في النفوس المسلمة المستسلمة.
هذا هو إسلامنا لمن يريد أن يعيد قراءة سيرته إلى الله على ضوء دينه القويم ويلتزم صراطه المستقيم، رحم الله جدي وجعله في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وجزى الله كل من عزَّانا وواسانا في مصابنا خيراً، دمتم بخير، وإلى لقاء، والسلام.