عمر إبراهيم الرشيد
في صباح كل يوم دراسي كانت طفلة أمريكية سمراء تسير على قدميها متجهة إلى مدرستها الواقعة في إحدى مدن ولاية ألاباما الأمريكية، وكان ذلك في عشرينيات القرن الميلادي الماضي، فتشاهد الحافلة تمر بجانبها وهي تقل التلاميذ الأمريكيين البيض. تقول روزا في مذكراتها بعد ذلك (كنت أرى الحافلة تمر كل يوم، لقد كان هذا أسلوب الحياة المعتاد ولم يكن لنا خيار إلا قبول هذا العرف، كانت الحافلة المدرسية أول ما جعلني أدرك وجود عالم أبيض وآخر أسود).
هذه هي روزا باركس الأمريكية من أصل أفريقي والتي ولدت في ولاية ألاباما عام 1913م، والتي انتقلت مع والدها للعيش مع العائلة بعد انفصال والديها، فتعلمت في المدرسة واجتازت عدة دورات تدريبية، وكان أن عملت في خدمة المنازل والمساعدة في المستشفيات، وتركت مقاعد الدراسة للعناية بجدتها، ثم والدتها المريضة بعد ذلك، وهكذا تبدت لديها روح التضحية في سن مبكرة، مما أكسبها بعداً إنسانياً جعلها تتنبه إلى معاناة بني جلدتها من العنصرية البيضاء والعمل على رفض هذه العنصرية لاحقاً. عندما تزوجت من ريمون باركس شجعها زوجها على إكمال دراستها فحصلت على الشهادة الثانوية وانضمت إلى حركة الحقوق المدنية فرع مونتغمري.
بدأت شهرة هذه المرأة وقصة كفاحها حين استقلت الحافلة في أحد أيام عام 1943م وبعد أن أخذت مقعدها في القسم المخصص للسود، وهذا بحكم القانون الذي أقرته الحكومة عام 1900م بفصل وسائل النقل بين البيض والملونين فلكل عرق قسم خاص به!، بعد أن جلست روزا أتى إليها سائق الحافلة وأمرها بأن تنزل وتدخل مرة أخرى من الباب الخلفي للحافلة المخصص للسود، فلما امتثلت مضطرة ونزلت كي تعود وتركب من الباب الخلفي، قاد السائق الأبيض الحافلة وتركها تمشي تحت المطر! بعد هذا الحادث بأكثر من عقد أي في الأول من ديسمبر عام 1955، استقلت روزا الحافلة فشاهدت نفس السائق الذي أنزلها وتركها تسير تحت المطر تلك السنة، فعرفته دون أن يعرفها، وكان أن توقفت الحافلة في إحدى المحطات وركب أربعة من البيض وكان القسم المخصص لهم ممتلئا، فجاء السائق طالبا من أربعة ركاب سود ترك مقاعدهم للبيض، وعندما امتثل الثلاثة للأمر رفضت روزا أن تقوم من مقعدها، فهددها بطلب الشرطة فأجابته (افعل ما بدا لك) وكان أن اعتقلت روزا في ذلك اليوم ليطلق مناصروها من أعضاء جمعية الحقوق المدنية وباقي مجتمع الأمريكيين السود، بعد اعتقالها بأربعة أيام فقط حملة مقاطعة الحافلات التي استمرت مدة 381 يومًا، ما ألحق خسائر بشركة النقل وتوقف عمل عشرات الحافلات نتيجة المقاطعة. وهكذا لفتت روزا المزيد من التأييد لقضية الأمريكيين من أصل إفريقي ليس في الولايات المتحدة فحسب، ولكن في العالم كله نتيجة سجنها لعدة أشهر بتهمة مخالفة قانون جائر أصلاً. ولقد نالت بعد سنوات طوال التكريم الرسمي لها ففي عام 1996 تم تكريمها بوسام الحرية الرئاسي، ثم وسام الكونجرس الذهبي عام 1999، وحين توفيت عام 2005 تم نقل جثمانها في موكب رسمي حضره أكثر من خمسين ألفاً، وقد صرحت وزيرة الخارجية حينذاك السمراء كوندوليزا رايس قائلة (لو لم تناضل روزا باركس ضد العبودية فلن أكون هاهنا اليوم كوزيرة للخارجية). وهكذا فلن يضيع كفاح هباءً مهما كان حال من يكافح، وأن كانت أمريكا قد ألغت قوانين العنصرية والتفرقة ضد مواطنيها السود، فإن العنصرية لم تنته تمامًا كممارسة اجتماعية بل طفت ثانية على السطح وبشكل سافر في السنوات الأخيرة، وما حوادث الشرطة وممارسة بعض المنتسبين لها ضد مواطنين من أصل إفريقي إلا شواهد على ذلك، فهل تأتي تدخلات بعض المؤسسات الأمريكية الحقوقية في قضايا خارج أمريكا لصرف النظر عن تلك القضية الحقوقة داخل أمريكا التي تعود إلى قرون خلت؟ إلى اللقاء.