عبدالرحمن الحبيب
بعد ظهور جائحة كورونا كانت كافة التوقعات تؤكد أن حياة الناس (الاجتماعية والاقتصادية) ستتغير بشكل أساسي وربما لا رجعة فيه. توقعات الخبراء أو الأكاديميين أو المشاهير أو العموم كلها صبت في اتجاه التغير الجذري للحياة سواء في أمزجة الناس من قلق وخوف والشعور بالوحدة والتباعد الاجتماعي أو العمل والتعلم من المنزل وحتى في طرق تفكيرنا وسلوكنا.. المفاجأة أن أغلب التوقعات لم يقع أو على الأقل لم يكن بالدرجة التي تم التوقع بها.
خذ مثلا - كما أشير في المقال السابق - كان المتوقع أن جائحة كورونا أثرت سلبياً في أمزجة الناس ومن ثم قلصت الشعور بالسعادة، لكن يبدو أن العالم أكثر سعادة عام 2020 من ذي قبل رغم الجائحة المروعة، وفقاً للاستطلاعات وتقرير السعادة العالمي، إذ أظهرت نتائج مركز استطلاعات الرأي جالوب، ارتفاعا طفيفاً في معدل السعادة عبر 95 دولة من 5.81 خلال الفترة 2017 - 2019 إلى 5.85 في 2020 (الدرجة من عشرة).
لاختبار مدى صحة توقعات الخبراء، بدأت في أبريل العام الماضي مجموعة من الباحثين يتصدرهم بروفيسور علم النفس مايكل فارنوم مشروع أبحاث واسع النطاق يهدف إلى تتبع مدى دقة علماء الاجتماع والسلوك (بما في ذلك علماء النفس الاجتماعي والعيادي، وخبراء الأحكام واتخاذ القرار، وعلماء الأعصاب، والاقتصاديون، وعلماء السياسة) في توقع تأثيرات جائحة كورونا على مجموعة من المجالات النفسية والسلوكية، بدءًا من الرضا عن الحياة والشعور بالوحدة إلى التحيز والجرائم العنيفة، في الولايات المتحدة. كما طلب من الأمريكيين العاديين القيام بهذه التوقعات أيضًا. بعد نصف عام، تم تقييم دقة هذه التوقعات.
المثير للدهشة أن النتائج تشير إلى أن التغير أقل بكثير مما قد يتوقعه المرء المتخصص أو العامي. صحيح أن الشعور بالوحدة زاد لكن بمقدار ضئيل لا يكاد يحسب. كما انخفض رضا الناس عن العلاقات الاجتماعية، لكنه أيضاً انخفاض طفيف، بعيدًا كل البعد عن التغيير الدراماتيكي الذي توقعه الناس في مارس الماضي. كما أظهرت الدوافع الاجتماعية الأساسية للناس القليل من التغير استجابةً للوباء.
في دراسة ممولة من مؤسسة العلوم الوطنية وشاركت فيها أكثر من 15000 مشارك في البحث حول العالم، لم يظهر تغيراً واضحاً إلا في دافع تجنب الأمراض المعدية في خطوط الأساس السابقة للوباء. كما توفر الطرق الأخرى لتقييم التغيير صورة مماثلة. باستخدام بيانات المسح من عينات كبيرة تمثيلية على المستوى الوطني، وجد أنه لم يكن هناك تغيير يذكر في 10 مجالات متنوعة في النفسيات والسلوك البشري بدءًا من الرفاهية الذاتية إلى التقليدية التي كان من المتوقع أن تظهر تغيراً دراماتيكياً.
هذه النتائج لم تكن متوقعة من قبل الكثيرين، بما في ذلك خبراء السلوك البشري والديناميكيات الاجتماعية الذين تبين أن توقعاتهم غير دقيقة بشكل عام. جاء الاستثناء الوحيد في مجال جرائم العنف، حيث لوحظ زيادة بنسبة 20 في المائة من الربيع إلى أواخر الخريف. المفارقة أن هذا كان مجالًا لم يتوقع فيه المشاركون بالتوقعات أي تغيير تقريبًا (مايكل فارنوم).
كيف يقارن الخبراء مع الشخص العادي؟ يقول فارنوم: المثير للدهشة أن خبراءنا لم يكن أداؤهم أفضل من الأشخاص العاديين في مجموعتنا الضابطة، حيث قدموا توقعات متطابقة تقريبًا (وغير دقيقة بنفس الدرجة) لتأثيرات الجائحة على مجموعة واسعة من الظواهر. حتى المقاييس الأكثر دقة للخبرة، مثل مقدار تدريب الفرد في العلوم الاجتماعية أو الخبرة في دراسة الظاهرة المحددة التي يتم توقعها، لم تُظهر أي علاقة بالدقة.
ربما الخبراء أفضل في الحكم على مثل هذه الاتجاهات بأثر رجعي، أي بعد مرور الأحداث. لمعالجة هذا الاحتمال، قام الباحثون في أواخر أكتوبر وأوائل نوفمبر بالطلب مرة أخرى لتقدير التغيير الذي حدث بسبب كورونا على أمل أن يعدلوا من توقعاتهم التي فشلت. ومن المثير للاهتمام أن هذه التقديرات بأثر رجعي كانت مشابهة جدًا لنفس التوقعات التي تم إجراؤها في الربيع، رغم أنها بعيدة عن الاتجاهات الفعلية. حتى مع الاستفادة من الإدراك المتأخر، لا يزال الناس، بمن فيهم الخبراء، يخطئون في تقدير تأثيرات كورونا ويصرون على توقعاتهم الخاطئة!
هل كل هذا يعني أنه يجب على الناس تجاهل نصيحة علماء السلوك والاجتماع؟ لا - يقول الباحثون - فهناك أمثلة لا حصر لها للتطبيق الناجح للنظرية والبحوث العلمية في هذه المجالات لحل مشكلات العالم الحقيقي، أما التوقعات فهي مجرد مجموعة فرعية واحدة من الخبرات، وربما الأصعب. فعندما يتعلق الأمر بالتوقعات، يبدو أن هؤلاء الخبراء في السلوك البشري والديناميكيات الاجتماعية يتمتعون بميزة واحدة على الأقل: إنهم أكثر وعيًا بحدودهم الخاصة. يقول الباحثون: في عملنا، لم يكن الخبراء متفوقين في التوقعات، لكنهم كانوا أكثر تواضعًا.. كان العلماء في دراستنا أقل ثقة بكثير في توقعاتهم من الناس العاديين، مما يشير إلى أنهم يعرفون أن توقعاتهم محدودة ويجب أن تؤخذ مع التشكك أو أن لا تفسره بشكل حرفي.
لماذا كانت التوقعات بشأن التأثير المجتمعي للوباء بعيدة عن النجاح حتى الآن؟ ولماذا عموما تفشل توقعات الخبراء.. هذا موضوع المقال القادم..