مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت مرتعًا خصبًا لكثير من الأفكار النقديّة المتطرّفة التي لا ترتكز على أسس معرفيّة أو علميّة، استند في رأيي هذا إلى مقولة غريبة وقعت عليها مصادفة، تزعم أنّ بعض الكتّاب الروائيّين الكبار يعجز عن إتمام حكايته، فيتركها بدون نهاية، وأنّ النهاية المفتوحة في عمومها لا تخرج عن هذا الإطار الفكاهي! ولقد لمست في ثنايا الحديث المذكور تهكّمًا واضحًا بهذه التقنيّة السرديّة، مقرِّرًا أنّ هذا الأمر ربّما وقع مع أحدهم مصادفة، فأتى بهذا المصطلح لتبرير فشله، مضيفًا أنّنا كعادتنا - نحن العرب - جارينا هذه «التقليعة» بلا بصيرة، ونحن نظنّها شيئًا من الإبداع!
لو افترضنا أنّ صاحب هذا الرأي الصادم هو أديب معروف، يُعتدُّ بقوله لكثرة مطالعاته وتعدّد إصداراته القصصيّة والروائيّة، فإنّ مثل هذه الحدّة المنفّرة في الطرح، ستلقى رواجًا وآذانًا مصغية، ويَكثرُ أتباع هذا الرأي، بحيث يصبح التصدّي له في مرحلة من المراحل صعبًا جدًّا، في حال لم يتمّ تفكيكه ووأده في مهده مبكّرًا قبل استفحاله وشيوعه وتمكّنه من الألباب والعقول، حتى وإن كان نتاجَ فهم خاطئ، أو تعميمًا لأخطاء يقع فيها بعض الروائيّين.
وقبل بيان عوار هذا التوجّه، علينا أن نعرّج بشكل سريع على أنواع النهايات التي - في ظنّي - تأتي على عدّة أوجه، منها النهاية المباشرة «الكلاسيكيّة» المعروفة، وهي تقليديّة، إلّا أنّها تمثّل قيمة، حسب جودة العمل أو النصّ الروائي، كرواية «جين أيير» للكاتبة «شارلوت برونتي» التي كانت نهايتها السعيدة مصدر قوتها وخلودها، وإن كان كثير من النقّاد والقراء، على حدٍّ سواء، لا يحبّذون هذا النوع في عصرنا، ويبحثون عن النهايات المستفزّة والمدهشة والمخاتلة. وفي وجه آخر، يحدث أنّ بعض الأعمال الروائيّة، عند إتمامها، تفاجئك بغياب النهاية مطلقًا، وترك الحكاية معلّقة دون إغلاق، وهذا بالطبع غير مقبول نهائيًّا، إلّا إذا كان العمل مسلسلًا، كرواية «المراهق» للكاتب الروسي «دوستويفسكي» التي تأتي في جزءين، وباقي الأعمال التي تنحو هذا المنحى في التسلسل والتجزئة، فتقبل بشرطها، بالضبط كما يحدث في أفلام الرعب التي تتعمّد إبقاء الحكاية دون إغلاق، بغية استكمالها في أجزاء جديدة، كفيلم «سو» الشهير.
الوجه الآخر الذي أظنّه أحدثَ هذا اللّبس، يمكن تسميته بالنهاية المعطوبة التي لا ملامح محدّدة لها، فلا يُعلَم إن كانت أُغلقت فجأة في عزّ تنامي الحدث، كسابقتها، أم أنّ المؤلّف صنعها على عجل، فغفل عن ترك محدّدات توصل القارئ إلى النهاية المنشودة أو قريبًا منها، وهذا بلا شك ولا ريب يُعَدّ ضعفًا كبيرًا يُسقط العمل مهما كانت قيمته، فكلّنا يعلم أنّ النهاية هي الفصل الإبداعي الأخير الذي يُظهر القيمة الحقيقيّة للكاتب والكتاب، وبترها أو إعطابها يصيب العمل في مقتل، ولكنّه لا يُعَدّ نهاية مفتوحة مطلقًا.
إذًا، ما النهاية المفتوحة التي تتغنّى بها شريحة كبيرة من النقّاد، وتُعَدّ سمة مهمّة من سمات الأعمال الإبداعيّة، ويحدث هذا اللغط الكبير حولها ممّن لا يفهمونها بالشكل الصحيح؟! يمكننا القول ببساطة، إنّ هذه النهاية الإبداعيّة هي التي تأخذ بيدك إلى عتبة الباب الذي يُخرجك من الحكاية ويعيدك إلى واقعك، لكنّها لا تمنحك كلّ الإجابات التي تشفي غليلك، بل تتعمّد تركك تتجاذبك بعض التخمينات والخيارات المقلقة التي تزيد من ارتباطك بالعمل، وتجعلك تقف متردّدًا على الباب بين البقاء أو المغادرة، وتُبقي خيطًا رفيعًا يُديم تواصلك مع الحكاية لفترة طويلة، وهو الإحساس الذي انتاب أغلبنا عند الانتهاء من قراءة رواية «ذهب مع الريح» للكاتبة «مارغريت ميتشل» التي تعد أنموذجاً لهذه النهايات المستفزة. ولعلّ سبب الخلط الحاصل هنا بين النهايات المعطوبة المزعجة وهذه النهايات الإبداعيّة، أنّ بعضهم - نظرًا لسوء فهمه وعجزه عن إدراك مغازي الكاتب من هذه النهاية الصادمة التي لم توافق هواه - يعتقد أنّ خللًا ما أصاب العمل، ودفع كاتبه لإنهائه على عجل دون وضع نهاية محدّدة تفكّ العقدة، ولعلّ من وطّد هذه الفكرة وشوّه الكثير من النهايات المفتوحة، هم بعض المقلّدين السذّج غير المتمكّنين، ممّن لا يُحسنون الوصول إلى هذه الصورة الرائعة، فنجد نهاياتهم مشوّشة، مبتورة الصلة وغير منطقيّة، وهو ما يُحدث الإرباك المفضي إلى التصنيف الخاطئ. ولكنّ حكمنا هنا يصبح قاصرًا إن عمّمناه، فهذه الأعمال الرديئة لا يقاس عليها أبدًا، ولا يمكن نسبتها إلى النهايات المفتوحة الإبداعيّة التي تجاهلها صاحب تلك المقولة!
ولعلّ ما تجدر الإشارة إليه، أنّ أحد أهمّ أسباب تبنّينا لهذه التجاوزات النقديّة، هو ربطنا كثرة القراءة بعمق الفهم، وافتراضنا أنّهما صنوان لا يفترقان. بينما الواقع يقول خلاف ذلك، فليس كلّ من قرأ وحفظ وأتى برأي، وجب الأخذ برأيه في قراءته ومحفوظاته، خلاف أنّ البشر على عمومهم يخطئون في أغلب أحوالهم. وكما يقال: «كلٌّ يؤخذ من كلامه ويُرَدّ عليه، إلّا صاحب هذا القبر.»ذلك يعني بالطبع أنّنا بحاجة ماسّة، في شأننا الثقافي تحديدًا، ألّا نسيرَ خلف كلِّ رأي، مهما كانت مكانته الأدبيّة، من دون تمحيص وإعمال فكر، فوسائل التواصل الاجتماعي ليست المكان المناسب لاستقاء العلم، وحسم خياراتنا الفنّيّة والأدبيّة، إنّ تحقيق ذلك يتطلّب منّا عدم الافتتان ببعض الأسماء اللامعة، وأن نعي تمامًا الفرق الكبير بين «القراءة والفهم».
** **
- حامد أحمد الشريف