أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال (ابن أبي الآفاق الترثي)، عفا الله عنه: تطرَّقنا في مساق سابق إلى ما أدلَى به أحد القمامصة المشلوحين من زعمٍ بأنَّ لغة «القرآن» هي لغة (محمَّدٍ)، لا «لغة ربُّنا!»، على حدِّ تعبيره! والخطأ في النحو- الذي زعمَه في «القرآن»- هو دليله على أن الكلام ليس بكلام «ربُّنا»، بل كلام عربيٍّ قرشيٍّ، لا يعرف لغته ولا لغة «ربُّنا»!
قلتُ: وبذا، فمن ذهبوا في تراثنا الإسلاميِّ إلى أنَّ اللغة توقيفيَّة، وأنها لغة (آدم)، بل لغة أهل الجنَّة، مصيبون، بحسب رأي القُمُّص الهُمام!
- هو لا يقصد ذلك، لكنها المغالطات. على أنَّ تلك من طوامِّ التراث، التي تفتح أبوابًا لا تُوصَد؛ بما تهرف به من الغيب تارةً، وتستند فيه تارةً إلى بعض مرجعيَّات القمامصة، الأموات منهم والأحياء! والواقع أنَّ «القرآن الكريم» نزل بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين، وما «اللسان العربيُّ» هنا غير لغة العَرَب، من قبائل (قحطان) و(عدنان)، لا لغة السماء، ولا لغة غيرهم من خلق الله. وهي- من حيث هي- نتاجٌ اجتماعيٌّ بَشَري. ومَن قالوا بتوقيفيَّة اللُّغة يورِّطون أنفسهم، من حيث لا يشعرون، في مزالق شتَّى؛ لو فكَّروا فيها، أو لو علموها، بالأصح، لما قالوا بالتوقيفيَّة قط، ولا بأنَّ العَرَبيَّة لغة آدم، فضلًا عن القول: إنها لغة أهل الجنَّة، «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، ولَا هُدًى، ولَا كِتَابٍ مُنِيرٍ.»
- كيف؟
- أتعلم، مثلًا، لِمَ كان اسم (الشمس) مؤنَّثًا في العَرَبيَّة واسم (القمر) مذكَّرًا، على حين هما مذكَّران معًا في لغاتٍ أخرى؟
- لا أعلم.
- وهنا المشكِل. وهذا المثال البسيط يكشف لك طبيعة اللغة، وأنها وليدة تجربةٍ ثقافيَّة، وحصيلة ظروفٍ تاريخيَّة لجماعةٍ بشريَّة، ولا يصحُّ هنا الزعم أنها لغةٌ أزليَّة، ولا أبديَّة. بل هي لغة قومٍ بائسين، عاشوا في حقبةٍ تاريخيَّةٍ محدَّدة، فجاءت لغتهم ملوَّثةً بعقائدهم وأساطيرهم، سواء تكلَّمنا عن العَرَبيَّة أو عن غيرها من ألسنة البَشَر المتعدِّدة.
- ماذا عن الشمس والقمر؟
- كان العَرَب يعتقدون أنَّ الشمسَ امرأةٌ، والقمرَ رجُلٌ، وأنهما زوجان، وقد أنجبا بنتًا، سمَّياها: (الزُّهرة). وانطلقت آلهتهم المختلفة، من اللَّات، والعُزى، ومناة، وود، وشهر، والمقة، وغيرها، من هذا المعتقد الشمسي والقمري والزُّهري. إنَّ العَرَبيَّة، إذن، صنيعة تلك الثقافة الأُسطوريَّة الوثنيَّة، التي كانت لدَى العَرَب في جزيرتهم، منها جاءت المفردات، ومنها تشكلَّت علاقاتها، من حيث التذكير والتأنيث، إلى غير ذلك، ممَّا يمثِّل ملامح الشخصيَّة العَرَبيَّة الثقافيَّة. تلك الشخصيَّة ذات التجربة الإنسانيَّة الخاصة، التي مرَّت في ثنايا التاريخ كما مرَّ سِواها. وليست العَرَبيَّة الفصحى بِدْعًا من اللغات في العالم، فهي حفيدة مخاضٍ طويل، لم يَصِل إلى استوائه الذي نعرفه اليوم إلَّا بعد ميلاد المسيح بقرون طوال. فأنَّى يزعم جاهلٌ أن هذه اللغة- المليئة بغبار الجزيرة وشموسها، وأساطيرها ومعتقداتها- هي لغة آدم؟ بل كيف يزعم آخَر أنها سوف تكون لغة أهل الجنَّة، وهي كما ألمحنا ما انفكَّت ملوَّثة، كغيرها من اللغات، بتاريخ البشر على الأرض، وبعقائدهم الباطلة، وأساطيرهم الوثنيَّة، وخرافاتهم الشَّعبيَّة؟ بل إنَّ بعض مفردات اللغة التي نستعملها تنطوي على جذورٍ ميثولوجيةٍ قديمة، وإنْ لم تَعُد مدرَكةً في ذاكرة العَرَبيَّة الممتدَّة والمغرِقة في القِدَم السحيق؟ أم كيف يُجاوز بعضٌ إلى القول إن لغة العَرَب هي (لغة الله سبحانه وتعالى)، التي خاطب بها آدم وغير آدم! إنْ هؤلاء إلَّا يظنون، من حيث لا يفقهون من اللغة أكثر من أنها أصواتٌ وكلمات، لا يعلمون تاريخ ولادتها، ولا طريق نشأتها، ولا مدارج تطوُّرها، ولا علاقاتها البيئيَّة والتاريخيَّة، ولا صِلاتها بغيرها من اللغات، بما اقترضت منها وما أقرضتها، فإذا هم يتوهَّمون أنها خُلِقت هكذا ابتداءً، خَلْقًا من عدم!
- لكنها لغة «القرآن».
- أجل، ولا تعارض بين هذا وذاك. أم كيف كان سيخاطب العَرَبَ بغير لسانهم؟! «ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ؛ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ، وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.» لاحظ هنا: بـ»لسان قومه». ولو توقَّف القائلون بالتوقيف عن أباطيلهم لدَى هذه الآية، لما تقحَّموا القول الطفوليَّ بغيره، من الزعم أنَّ ما أُرسل به (محمَّد، عليه الصلاة والسلام)، هو بلسان آدم، لدَى بدء الخليقة، ثمَّ سوف يكون لغة أهل الجنَّة، بعد القيامة! منتهين في دعواهم الغيبيَّة العجيبيَّة إلى أنَّ لُغة بعض قبائل الجزيرة العربيَّة- التي إنَّما تبلورت لغةً أدبيَّةً، متداولةً بين العَرَب في أسواقها ومحافلها، بين عامَي 500م و600م- هي لغة بني آدم، منذ خُلِق أبوهم إلى البعث والنشور، وما بعد البعث والنشور، ويا له من غُرور!
- حلوة سجعتك السُّطَيحيَّة! لكن ماذا عن قول القُمُّص حول اختلاف نحو «القرآن» عن نحو (قحطان) و(عدنان)؟
- هو أهون من هذا، وارجع إلى جوابنا في مساقاتنا السابقة. وما كان «القرآن» ليأتي بنحوٍ جديد، ولا بلغةٍ جديدة، ولا بتصحيح للسان العَرَب، مهما كان، ذكَّر أو أنَّث، رفعَ أو نصبَ أو جر. ولسنا في حاجة هنا أيضًا إلى مثل رأي المعتزلة في خلق «القرآن»، ولا إلى أن نعالج هذا بمثل ما يراه (محمَّد أركون)، أو (جاكلين شابّي Jaqcueline Chabbi)، حول الفارق بين «قرآن اللوح المحفوظ» وتجلِّيه «التاريخويِّ» المصحَفي(1)؛ بل الخَطب أيسر من ذلك كلِّه. لأنَّ ما يثيره (القمُّص)- الذي أشغلتَنا بترَّهاته!- لا يعدو مسائل أثيرت قديمًا جدًّا، وأجيب عنها قديمًا جدًّا، في طروحٍ عِلميَّة حِواريَّة، تَذكُر الإشكال وتجيب عنه. ومن الواضح أن صاحبك يعود إلى كتابٍ محدَّد، لعلَّه «مشكل تأويل القرآن»، لـ(ابن قتيبة، 276هـ= 889م)، على وجه الخصوص، الذي عرضَ مطاعن القمُّص- التي هي نفسها مطاعن أجداده من معاصري ابن قتيبة- وبالتفصيل، تحت عنوان «مطاعن...»، وأجاب عنها قبل أكثر من ألف سنةٍ ومئة. ومَن شاء فليرجع إلى ذلك الكتاب ليُلِمَّ بمرجع حلقات «قُدس أبونا»- كما ينعتونه- في ما يتعلَّق بالنصِّ القرآني. ذلك أن قُدسه- لا حرمنا الله فكاهاته!- إنَّما يَظهر على الناس ليستعرض لهم تقميشاتٍ بالية، وكأنها من عبقريَّات اكتشافاته المعاصرة التي لا تنفد. يفعل هذا بلا أمانةٍ عِلميَّة، غير أنَّ عوامَّ المتلقِّين لا يُدرِكون هذا الاجترار الحديث للسَّلف الطاعن، فيروج عليهم على أنه إشكالاتٌ عويصةٌ وجديدة، من بنات أفكار المعاصرين، وسعة عِلمهم باللغة، وتبحُّرهم في البلاغة، والدرس الدقيق، ممَّا هو مفحِمٌ، ولا جواب عنه.(2) أمَّا تأليه الإنسان، فمعلومٌ أنَّه قد عُرِف بدَوره «قديمًا جدًّا جدًّا»، لدَى الإغريق، ولدَى البوذيِّين، ولدَى البراهمة، ولدَى الفراعنة، ولدَى البابليِّين، والآشوريِّين، والأكديِّين، وغيرهم. وقد فلسفه الفيلسوف الألماني (لودفيغ فيورباخ Ludwig Feuerbach، -1872) في طرحه المتعلِّق بمفهوم «الدِّين الإنساني»، ويعني الدِّين الذي يُؤلِّه الإنسان، ذاهبًا إلى أنَّ (الإله الإنسان) ليس بسِوَى صورةٍ مثاليَّة، أسقطها بعض البدائيِّين على نماذج منهم؛ ليُريحوا مطامح الغيب البعيدة بمراتع المشاهدة القريبة؛ «فيجعلوا سمنهم في دقيقهم»، كما يقال، وكفَى الله المؤمنين الخيال الموغِل بعيدًا في ما وراء الطبيعة! (3)
... ... ... ...
(1) انظر مثلًا: أركون، محمّد، القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدِّيني.
(2) وهناك من ينسب تلك الظواهر إلى أخطاء في الكتابة، ناسبين إلى بعض الصحابة التنبيهَ إليها، وأنها لحنٌ كتابيٌّ ستقيمه العرب بألسنتها، أيَّام كان يُحفَظ «القرآن» في الصدور، ولا يُعتمد فيه على السطور، إلَّا على سبيل التذكير. (انظر: ابن الخطيب، محمَّد محمَّد عبد اللطيف، (د.ت)، الفرقان، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 90- 91). وتلك، على كل حال، دعوَى تحتاج إلى تحقيق، ليس هذا بمقامه.
(3) يُنظَر في هذا مثلًا كتاب: (فيورباخ، (1991)، أصل الدِّين، دراسة وترجمة: أحمد عبد الحليم عطية، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر)). وإنْ جاءت ترجمةً حافلةً بالأخطاء العجيبة في اللغة العربيَّة، ما يثير التساؤل- في المقابل- عن مدَى دقَّتها في النقل عن اللغة الألمانيَّة!