تحاول هذه القراءة أن تصطاد مواقع منتخبة من سيرة السريحي الثقافية الملهمة للتاريخ الثقافي وللأجيال في النقاط التالية:
* سعيد الإشكالي: وهذا جانب ثري في شخصية السريحي هو أساس كل ثراء أسداه للحركة الثقافية ونالته الثقافة منه، فالسريحي منذ أن عرفته وهو فتى لا يقنع بالسائد والمألوف؛ وقد لحظ فيه ذلك أساتذتنا رحم الله من مات منهم وحفظ من بقي، فقد كلفه أستاذ علم العروض والقافية الأستاذ محمد هاشم عبد الدايم ببحث عن معنى كلمة العروض؛ فقدم بحثا لا زلت أستذكر الدهشة التي استقبلنا به ذلك البحث الذي قدمه وقد نال ذلك إعجاب أساتذتنا؛ وما لبثنا بعض الوقت في القسم إلا والسريحي يشحذ الهمة فينا لننشئ صحيفة حائطية بالقسم اتفقنا على تسميتها بـ»أصداء الكلمة» تبين لنا بعد ذلك أن تلك التسمية التي جاءت باقتراح من السريحي، ما هي إلا اسم الصحيفة الحائطية التي كان يصدرها سعيد مع زملائه بمدرستهم الثانوية؛ وقد اقتسمنا المهمة منا من يكتب كلمة الفاتحة ومنا من يرسم الكارتير وأساتذتنا يمدوننا بالتوجيه والنقد بعد صدور كل عدد ولا شك أن لذلك أثره في تهيئتنا للكتابة فيما بعد؛ ما لبث السريحي بعدها أن قدم محاضرة عن الشعر الحر الذي كان في تلك الأيام حديث المشهد الثقافي العربي برمته منذ أن كتبت نازك الملائكة قصيدتها (الكوليرا) ولست بحاجة إلى تذكير المشهد الثقافي بالجدل الدائر تلك الأيام حول هذا القادم الجديد إلى الساحة؛ قدم السريحي محاضرته تلك ونشب حولها جدل عنيف بينه وبين الزميل (عاصم حمدان) رحمه الله.
أستذكر أيضا أن السريحي كان مدرسة لزملائه؛ نجتمع عنده في البيت ونتداول قراءة النصوص الشعرية من مكتبته التي تعج بالدواوين الشعرية؛ نقرأ لبشارة الخوري؛ ونقرأ لشعراء الديوان وغيرهم؛ وسعيد يحلل ونحن نستمع ونتبادل الرأي والحوار؛ ثم استقبلنا القادم الجديد ممثلا في شعر الحداثة رموزه الجديدة (محمد الثبتي؛ والصيخان؛ ومحمد جبر الحربي؛ وعلي الدميني؛ ثم يقود سعيد زملاءه بعد ذلك في صحيفة (عكاظ) لتتبنى الصحيفة الحداثة منهجاً تنويرياً تدرس النصوص وتحللها خاصة أن الزملاء قد زرع فيهم أستاذ الجيل في تلك الفترة الأستاذ الدكتور لطفي عبدالبديع رحمه الله منهجاً جديداً في تلقي قراءة النص يعتمد المنهج الأستطيقي والإبستمولوجي في دراسة النص؛ وقد انقسم الجيل في تلك الفترة على قسمين؛ قسم يتبنى التجديد؛ وقسم يناوئ؛ وكل فريق يشحذ نفسه وطائفته ليغالب الفريق الآخر.
وتهيأ لسعيد بوصفه عضو مجلس إدارة في نادي جدة الثقافي الأدبي الذي كان تحت إدارة أستاذ التنوير الأستاذ (عبدالفتاح أبو مدين رحمه الله) الذي كوّن من النادي مع زملائه أعضاء مجلس الإدارة أن يجعلوا نادي جدة مدرسة للنقد على حد وصف (الدكتور الغذامي) واستشعرت هذه المدرسة مسؤوليتها في التنوير بالنقد الجديد تعقد له الحلقات وتستدعي المنتدين من داخل المملكة وخارجها؛ وكوّن بعد ذلك ما عرف بـ(ملتقى قراءة النص) الذي عقد حلقات عدة عقدت أعواما متعددة؛ عقدت حلقتها الأولى بعنوان (قراءة جديدة لتراثنا النقدي) أذكر من المنتدين فيها: د.لطفي عبد البديع؛ مصطفى ناصف (الذي كتب مقدمة الكتاب الذي صدر حاملاً مناقشات هذه الندوة وجميع حواراتها بعنوان (خصام النقاد)؛ و»كمال أبو ديب) و(برادة) من المغرب؛ و(صلاح فضل) من مصر و(محيي الدين محسب أيضا من مصر)؛ وتصدر أعمال هذه الندوات في مجلة سميت بـ(علامات) وكان للسريحي دوره في الإشراف على هذه المجلة التي رافقها بعد ذلك مجلات عدة؛ منها (جذور) خاصة بأبحاث التراث؛ و(عبقر) خاصة بالشعر و(نوافذ) خاصة بـ(الترجمة) واشترك في التناوب على تحرير هذه الإصدارات (الدكتور السبيل) (عاصم حمدان) وغيرهما ممن لم تعد الذاكرة تسعفني بتذكر أسمائهم.
*مشكلة السريحي مع الجامعة: بدأت هذه المشكلة منذ أن اختار سعيد بحثه للماجستير مع أستاذه الدكتور (لطفي عبد البديع) تحت عنوان (الأبيات المشكلة في شعر أبي تمام؛ فأبو تمام مشكل في النقد القديم فهو عندهم من المتمردين على عمود الشعر العربي ومبتكر الاستعارات الجديدة التي كانوا يعدونها متكلفة؛ وكان الخلاف عليها مشتجرا منذ حديث النقاد عما أحدثه الشعراء المولدون في العصر العباسي منذ أيام ابن المعتز والمتنبي وما دوّن في النقد الأدبي حين ذاك؛ فنستذكر جهود القاضيين في ذلك وما كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه عنا ببعيد، وقد قّدر للسريحي أن يدوّن هذه العلاقة المتجذرة بينه وبين أستاذه الدكتور لطفي عبدالبديع في جميع كتبه التي أصدرها؛ خاصة ما يتعلق منها بالسيرة مثل كتاب (القهوة) وكتاب (الرويس) وكتاب (تحرير المجاز) وقد قدّر لكاتب هذه المقالة أن يعلق على هذا الكتاب سابقا بمقالة يعن لي أن أوردها مرة أخرى في كتاب تكريمه وكانت تحت عنوان (هل حرر السريحي المجاز؟) وهي كالتالي: أهداني صديقي الكريم المفضال أبو الأسفار الدكتور سعيد السريحي وهو عابر الطائف إلى الجبيل ومسافر برّاً لزيارة ابنه نواف كتابه الموسوم (بتحرير المجاز)، هامش على جهود لطفي عبد البديع اللغوية، وقد كتب الإهداء هكذا (إلى الصديق الأعز عالي القرشي بعض وَشَل استقينا من نبعه). والكتاب جذاب لطيف المأخذ وعسر الفهم، وإشكال هذا التناقض في العبارة السابقة هو المجاز نفسه الذي آل في درس النحويين والبلاغيين وعلماء الكلام إلى (هياكل افتراضية لغة تتوافق مع مقولات اللغة) أو كما يقول السريحي (لغة تقوم خارج اللغة مرتبطة بمقاصد واضعها وليس بمقصد من يتحدث بها) ص62.
وقد أدى إلى هذه النتيجة افتراض وضع اللغة: وقد احتدم الخلاف في ذلك حتى آل الأمر إلى وهم الاتفاق في المختصرات الذي يرى السريحي أنه وهم ويكشف عما هو مضمر خلف ذلك الاتفاق الذي تغري به لمختصرات من خلاف واختلاف يوشك معه ألا يستقر لباحث يقين بما ذهبوا إليه). ص36. والذي أراه أن السريحي وهم بتسلحه بالمعرفة وبفهم جهود أستاذه لطفي عبدالبديع بالوصول لحل لهذه الإشكالات التي انتزعت اللغة من سياقها، ومن فاعليتها، ونشاطها الإنساني فآل به ذلك إلى كشف الإشكال، والدوران في دوائره المضنية من باب (وداوني بالتي كانت هي الداء) وهذا ديدن السريحي لا يهاب الصعب، ولا يخشى وعورة المسلك والتأتي إليه، ومن أجل أن أجلو ذلك سأعود إلى تحرير سعيد وأتابع مسلكه فأجد:
1- إن النحو آل بأن الكلمة تعطل مفهومها الدلالي وآلت إلى صنعة في نقاشهم وجدلهم، وكأنها ليست الكلمة التي كون بها الإنسان والتي جاءت في آيات عديدة من كتابه الكريم تحمل هذا المعنى من مثل قوله تعالى:
(كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) (24) سورة إبراهيم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (الكلمة الطيبة صدقة). عبر سلوك النحاة إليها مسلكا آل بها إلى ذلك، حين أضناهم البحث في دلالتها اللغوية ودلالتها الصناعية فترددت بين الحقيقة التي أومئ إليها وصناعة نحوية أضحت من عالم آخر غير لغوي، أو كما قال السريحي (وبهذا تنتهي صنعة النحو إلى اعتبار دلالة الكلمة على الكلمة عند النحاة هي الحقيقة التي ينبغي قصداً وحمل النظر إلى دلالتها على جملة الكلام عند العرب على أنه مجاز مهمل لا يتعرض له النحاة). ص 26، 27.
2- تعطيل فهم الذائقة السليمة والمتبادر إلى الذهن إلى الدوران في دوامة افتراضات لا تبقي فيها ولا تذر من مثل ما عرضه ابن جني في فهم (ضرب زيد عمراً). ص 56. وأرى أن صنيع سعيد هذا يتسم بـ: العمق المعرفي الذي جعله يقتحم عالماً من العلم المظنون به على غير أهله، يتردد بين النحو وهوامشه وشروحه وعالم البلاغة بما هُمش عليها وحُشي، وعالم الكلام وجدل المتكلمين، وما يصح به الاعتداد عقديا وما لا يصح وهذا شأن سعيد في العلم دائماً، وفيما ألف لا يقف عند الساحل بل يقتحم أهوال البحر ليأتي بالصدف واللؤلؤ والمرجان، في سائر مؤلفاته: ابتداءً من رسالة الماجستير التي اقتحم بها عالم المشكل من شعر أبي تمام، ومروراً عبر مؤلفاته الأخرى: البديع عند المحدثين في الشعر العباسي الذي أسماه حين الطبع (حركة اللغة الشعرية) (حجاب العادة) الذي يوحي عنوانه بأن العبور إلى الفهم العميق للأمور وتفسيرها لا بد له من قشع القشرة المألوفة وطرحها جانباً ليأتي الفهم و(القهوة) في تفسير تاريخها وشغف الإنسان العربي بها، وما يتدانى إلى ذلك من عالم الصوفية، وطرائقها في مثل كلمة (الشاذلية) ونحو ذلك في الوجدان العربي كيفاً وشعراً، ومواصفات في شرب القهوة اتخذت لها قوانين عرفية ورموز، ودلالات. وانتهاء بمؤلفه هذا الذي نحن بصدده؛ ولكن ما هكذا تورد الإبل يا سعيد، فليس كل قرائك من نمطك أنت الذي تتلمذ على يد لطفي عبد البديع، ولا من نمط حسين بافقيه الذي يفهم مقاصدك ومع ذلك يتدرع لها بقراءات جادة في الحواشي والشروح كما حدثني.
وأقيس بذاتي فأنا الذي تتلمذ معك على أستاذك لطفي عبد البديع وجلس بين يديه في قاعة الدرس وخارجها، وقرأ في كتبه عانيتُ صعوبة في متابعتك (إلا إذا كنت بدعاً بين الناس، ولا أظنني كذلك؛ ولذلك كنت حذراً في أمر (تحرير المجاز) وذيلت تحت العنوان بـ(هامش على جهود لطفي عبد البديع اللغوية)، ومع ذلك أقول: إنك حررت المجاز ولكن بمغامرة في مركب لا يركب معك فيه إلا (من آمن) وقليل ما هم.
** **
- د. عالي سرحان القرشي