بلغ حامد الثلاثين من عمره ولا يزال يعيش مع والديه عازبًا، ومنذ تخرجه وحصوله على العمل في أحد البنوك الكبيرة ووالدته تُلمّح تارة وتصرّح أخرى، بل وتبكي أحياناً تتمنى عليه البحث عن زوجة.
لم يكن ممتنعًا بالكلية عن هذا الموضوع ولَم يشارك والدته هذا الاهتمام والرغبة، وفي كل مرة تفتح معه هذا الموضوع لم يزد عن القول بدري يا أمي. استعانت بخبرات الخالات والعمات وممتهنات الخطوبة ، لكن دون جدوى.
ليست له شروط ولا مواصفات تُيسر لوالدته البحث عن شريكة مناسبة مما يجعل الحديث رغم تكراره المستمر بلا جدوى.
راجعته في مقر عمله إحدى العميلات تشتكي من توقف خدمات حسابها لدى البنك، وبعد البحث تبين ملاحظة وطلباً من إحدى الجهات الأمنية بالاستفسار عن كثرة الحوالات الواردة لحساب هذه العميلة، فأوضحت له أن لديها عدة نشاطات وتقدم بعض الخدمات بمقابل، ولهذا تصل تلك المبالغ لحسابها.
ولإكمال المتطلبات الرسمية طلب تعبئة النماذج المخصصة وتوضيح سبب ومصادر التحويلات لحسابها ليتمكن من إرسالها للجهة الأمنية، وسيبقى بانتظار تعليماتها وموافقتها لإعادة تنشيط الحساب.
غضبت تلك الفتاة من إيقاف خدمات حسابها البنكي وتعطل مصالحها لمجرد قيامها بنشاط مشروع وبيعها لوحات فنية ترسمها بنفسها وأحياناً تطبع عدداً محدودًا منها على شكل بوسترات موقعة منها، مع وضع رتوش تعطي انطباعًا بأنها نسخ أصلية، إضافة لما تحصله من أتعاب مقابل عملها كمستشارة نفسية مختصة بالإرشاد الأسري عبر الاتصالات الهاتفية لا أكثر، وعبرت عن غضبها بالقول إنها ستقفل حسابها لدى البنك بل وحتى التفكير بالهجرة من هذه المدينة التي يحاصر فيها الفنانون والعاملون بإصلاح أحوال العديد من الأسر ويشكّ في سلوكهم أو انتمائهم.
حاول حامد تهدئتها والوعد بمتابعة الموضوع لإنهائه بأسرع ما يمكن، وزاد بأن عرضَ تقديم أية مبالغ نقدية تحتاجها العميلة حتى وقت إنهاء الموضوع.
لم يكن ردّها بأكثر من القول إنكم أيها المصرفيون تقتاتون على مصاعب غيركم، فلا أريد قرضًا ولَم آت هنا للحصول على مساعدة.. يعتذر حامد؛ سيدتي لم أقصد استغلال ظرفك وهذا العرض شخصي لا علاقة له بالبنك.
أنا آنسة أولاً، وثانياً أريدك فقط تسرع بمتابعة الموضوع.
معذرة يا آنسة مرة أخرى، وأرجوك اعتبار هذا العرض أو المبلغ دفعة مقدمة لثمن عدد من اللوحات وبعضًا من أتعاب استشارة عائلية خاصة بي.
أنا لا أناقش هذه المسائل هنا ولا بهذه الطريقة.
كما ترغبين فليكن بالمرسم أو لديك بالمكتب.
جيد إذن اتفقنا، تفضلي هذا الشيك بمبلغ عشرة آلاف، وبإمكانك صرفه الآن نقدًا من صندوق البنك هنا قبل مغادرتك.
سيكون تحديد المبلغ والأتعاب بعد اختيار اللوحات وعددها ومعرفة المشكلة الأسرية وأطرافها، وبإمكانك الاتصال لترتيب الزيارة والحديث عن المشكلة على رقم هاتفي المسجل لديكم.
الحقيقة أنه ليس مسجلًا لدي ولا أرغب طلبه من الزملاء، فأرجو إعطائي الرقم الآن، ومن ناحية ثانية فالمشكلة العائلية تخصني مع والدتي وبالإمكان شرحها لك الآن بدقيقة واحدة أو حتى أقل، ولا حاجة لترتيب موعد.
واللوحات ألا ترغب مشاهدتها واختيار ما يعجبك ؟
بلى سأرتب معك على زيارة للمرسم للاطلاع واختيار ما يناسبني، لكن مشكلتي مع والدتي أرغب عرضها عليك الآن ولا بأس إن كان الحل لاحقاً.
حسناً فما هي مشكلتك ؟
الوالدة - يحفظها الله - تضغط عليّ بشكل شبه يومي لأتزوج، وأنا أتهرب، هذه هي المشكلة وأرغب منك الحل.
ألم تتزوج حتى الآن ؟
صحيح لم أتزوج ولا أرغب في غضب والدتي.
المشكلة لديك وليست لدى أمك.
صحيح.
إذن سيكون الحديث معك أنت.
أنتِ المستشارة.
إذن لنحدد موعدًا لهذا البحث.
أرغب أن يكون عاجلا وبنفس الوقت سأقوم باختيار اللوحات.
جيد، سأنتظر اتصالك الليلة، ولا تنسَ متابعة موضوع حسابي.
حاضر.. ولكن لم لا تصرفين هذا الشيك الآن ؟
لا لا بعد أن نتفق على الأتعاب وثمن اللوحات.
اتفقا على اللقاء في مشغل أو مرسم الآنسة نجوى مساءً.
أخذت اللوحات المعلقة على جدران المرسم فور دخوله جلّ اهتمام حامد، ولفت نظره غلبة الثلج على أغلب اللوحات التي تُعبّر عن الطبيعة، واعتبر تلك الملاحظة مدخلا للحوار الفني حول هواياتها واهتماماتها المتنوعة، وتبين له أنها عاشت طفولتها في «بلد أوروبي» وعبّر حامد عن إعجابه بتلك البلاد وطبيعتها الساحرة وأنها محظوظة في تلك الفرصة التي حملتها مع والديها هناك.
كانت الأسعار موضحة على كل لوحة وهي في متناول حامد وضمن إمكاناته فقرّر شراء جميع اللوحات الجاهزة، وطلب بضع لوحات أخرى بعد أن عرف إجادتها أيضاً للفن التكعيبي وحدد الموضوعات التي يرغبها، لكن نجوى اعتذرت عن بيع جميع اللوحات قائلة بابتسامة لطيفة يبدو أنك ترغب شرائي أنا لا اللوحات يا حامد، اختر اثنتين أو ثلاثاً فقط، ودع الباقي لعملائي الآخرين.
لم يستطع حامد الرفض ولكنه شعر بشيء من الغيرة تعصر قلبه بمجرد سماعه عبارة عملائها الآخرين، ولكن الكلمة الأقوى تأثيرًا عليه كانت قولها يبدو أنك ترغب شرائي أنا لا اللوحات يا حامد.
ضاعت عباراته ولُجّ عليه وكان ذلك الارتباك فرصة ملائمة لنجوى للانتقال لموضوع الاستشارة الأسرية التي حددها في المكتب عن ضغوط والدته عليه بالزواج، فقالت عادة يا حامد أتواصل مع جميع أطراف المشكلة لدراستها قبل تقديم المقترحات والحلول، لكنني في حالتك لست بحاجة للاستماع لوالدتك فالمشكلة لديك وحدك، فما الذي يمنعك من الارتباط بشريكة حياة وتحقق تحقق رغبة والدتك ؟
قال لست أدري، فلم يكن لدي مواصفات ولا شروط، كل ما في الأمر أنني مصدوم من حكايا الطلاق الكثيرة وعدم التوافق السائد بين الأزواج كما أسمع وأرى.
هل تصدقين أن بعض الزملاء والأصدقاء يحسدونني على العزوبية وبعضهم يقول لم لا يكون للزواج تاريخ صلاحية ومدة تنتهي العلاقة بعدها بين الزوجين ؟ هذا الجو العام للعلاقات الزوجية حولي هو الذي يمنعني من قبول الفكرة والإقدام عليها.
طيب أَلمْ تعش تجربة حب ؟
الحقيقة قبل اليوم لا.
انشغلت حياءً بهاتفها كأنها لم تسمع الإجابة، لكنها قالت الحبُّ مدخل ولكنه يفضي لأشياء متعددة منها ما هو جميل ودافع للاستمرارية والتعلّق الدائم، ومنها ما هو صادم يؤدي إلى ما ذكره أصحابك، والموضوع يبدو لي بل إنني على قناعة تامة وفق ما درست وشاهدت أن الكثيرين لم يحددوا هدفًا لهم ولا حتى معرفة بالعلاقات الإنسانية، سواء كانت شراكات أعمال أم زواج أو أياً كانت، أراهم يقتربون جداً من بعضهم حتى قبل المعرفة البسيطة بالطرف الآخر ومع الوقت تزداد الفرقة، بعكس الوضع الطبيعي الذي يفرض وجود تباعد وغموض ومع الوقت يفهم كلا الطرفين شريكه أو لنقل الطرف الآخر قبل أن يصبح شريكًا له.
- هذا صحيح وملاحظة موفقة.
- أنت يا حامد أراك منجذبًا ومندفعاً هذه اللحظات تجاهي دون أن تتعرف عليّ بما يجعلك تفهمني، أليس هذا صحيحًا ؟
لا أنتِ مختلفة ومحظوظ من تقبلين به.
كما توقعت، الاندفاع دون بصيرة يؤدي إلى نتائج مؤسفة، أنت قلت قبل قليل إنك محظوظة لإقامتك مع والديك في البلد الأوروبي بناء على معلومة مختصرة جداً سمعتها مني دون تحقق ولا فهم.
ألم تقولي إنك عشت أثناء طفولتك هناك ؟
بلى، ولكن من قال إنهما والداي ؟
ماذا ؟ من هما إذن ؟
أظنك ستصدم وستغير رغبتك وكلامك بأن الذي سيرتبط بي سيكون سعيداً ؟
يا شيخة ؟ يا نجوى ؟ أنت تلعبين بأعصابي كثيراً !!
ابداً، لكني أردت أن أؤكد لك صدق تحليلي لأسباب خلافات أكثر الأزواج ونهايتها المأساوية.
لكن رجاءً أخبريني عن ظروف إقامتك هناك وعن علاقاتك بأسرتك التي كنت معهم ؟
لا بأس، هل تعدني باستمرار رغبتك باللوحات والنظرة نفسها لنجوى كما كنت قبل قليل ؟
نجوى أعدك وقد تخلّصت من الحرج الذي كان، فأقول لك صراحة الآن هل تقبلين بي زوجاً لك؟
لماذا لا تنتظر لتعرف من أنا ؟
أقبل ما لم تكوني إحدى محارمي أو أختاً بالرضاعة أو لسبب طبي يقرره الفحص الرسمي.
مرة ثانية هل أنت متأكد وعليه اتفقنا ؟
اتفقنا
أنا ...
ماذا ؟؟ ماذا يا نجوى ؟؟ يا لطيف .. يارب!!
أكمل يا حامد .. هل تحفظ المعوذتين ؟ أم تريدني أتلوها عليك وأرش عليك من ماء زمزم؟
أرجوكِ أرجوكِ !!
بماذا ترجوني ؟ قل ولا تخف، فلن تكون بأصعب من حالتي عندما عرفت أنا تلك الحقيقة.
نجوى .. هل أستطيع أن أغادر الآن ؟
واللوحات يا حامد ؟ اللوحات يا بدري !!
وبقت وحيدة تبكي في مشغلها، وقررت العودة إلى هناك فور رفع الإيقاف عن خدماتها البنكية.
** **
- عقل مناور الضميري