انتشر في الإعلام العالمي هذه الأيام استخدام مصطلح «فخ ثيوسيسدس»، فما هو هذا الفخ؟ ولماذا اندلع الحديث عنه وكأنه حقيقة مطلقة؟
ثيوسيسدس (400-460 ق.م.) هو مؤسس المدرسة العلمية والواقعية السياسية في التاريخ؛ وهو صاحب كتاب «تاريخ الحرب البولونيزية»؛ الذي يؤرخ فيه للصراع بين أثينا واسبرطة؛ ويؤكد أن صعود أثينا وخوف اسبرطة منه؛ سبب «لحتمية» نشوب حرب!
قياساً على ذلك تقول «الطغمة الإعلامية العالمية»؛ التي تسمي نفسها؛ مغتصبةً بذلك عقول ووعي البشر كلهم؛ «محايدة»؛ بأن صعود الصين الاقتصادي سيؤدي «حتماً» إلى حرب بين الصين وأمريكا؛ وستكون بـ«الضرورة» حرباً شاملة!
الصين واليسار العالمي وعلماء الاجتماع غير المسيسين يؤمنون بمأثرة ثيوسيسدس، وأنه عبقري اكتشف أن المعطيات التاريخية لها جذور علمية، ولكنهم يؤمنون أيضاً أن العلم والمجتمع لم يتوقف تطوره عند ثيوسيسدس. وأن إبن خلدون قد «طوّر» مقولة ثيوسيسدس إلى أن التاريخ ليس مسلمات مصفوفة، إنما قراءة التاريخ يجب أن تكون علمية! وصحيح أن التاريخ يعيد نفسه بالشكل، ولكن لا يمكنه أن يعيد نفسه بالمضمون! فهل ستنشب الحرب الشاملة كما يروج الإعلام «المحايد» في عصرنا؟
طوال التاريخ كان المتفوق اقتصادياً هو صاحب القرار بالحرب أو السلم. وتعاقبت الأنظمة صاحبة القرار بأنماط مختلفة، وكان دائماً الرابح الأكبر هو من استطاع «تطوير» اقتصاده ليتفوق على من هم قريبون من مستواه، ثم يفرض هيمنته على الآخرين! ولكن بشرط أن يستمر هذا المهيمن بـ«تطوير» اقتصاده واقتصادات من يهيمن عليهم! أي أن تلك الأنظمة المتعاقبة لم تكن تستطيع الاستمرار بهيمنتها وظلمها إلا بالحفاظ على مبدأ «التطور»، الذي يسمى في عصرنا «ديالكتيك». فـ«الحتمية» إذاً ليست للحروب كما يستنتج «أفذاذ الإعلام المحايد»، إنما لـ«التطور»، والبداية هي بـ«التطور» الاقتصادي.
بيد أن آخر الأنظمة الظالمة المتعاقبة؛ أي «النظام الرأسمالي»؛ قد تأكد أن البشرية لا تستطيع ابتكار نظام ظلم ونهب أفضل منه؛ وأنه لا يستطيع إيقاف «التطور الحتمي»؛ أي أن «تطوره» هو كنظام؛ سيؤدي إلى البديل الذي لا مفر منه؛ وهو «نظام» يضع البشرية على طريق الخلاص من النهب والظلم؛ أي إلى «تعاقب أنظمة» جديد؛ يكون فيها المسحوق هو صاحب «القرار»!
الرأسمال لم يكتشف تلك الحقائق بسبب عبقريته! إنما بسبب اليسار الممثل للمسحوقين، الذي تقبل فكرياً مبدأ ثيوسيسدس وإبن خلدون وغيرهما دون تقديسها؛ أو جعْلِها «أيقونات» في الكنائس؛ كما فعل الإعلام «المهني المحايد»! .. قال دريد لحام «أنا لست محايداً إلا في ملح الطعام»؛ ساخراً من كل من يدعي الحياد؛ وهو محق في ذلك؛ فكيف يمكنك أن تكون محايداً بين ظالم ومظلوم؟ أو بين من يريد هلاك البشرية ومن يريد رقيها؟
بيد أن اليسار قد أخفق إخفاقاً فادحاً بتسمية المرحلة الانتقالية من الظلم «المطلق» إلى بداية الطريق نحو الخلاص من الظلم بـ«الاشتراكية»! فمرحلتنا هذه تتطلب استكمال التطور الرأسمالي بشروط «المسحوقين» وليس الظالمين! فإن شئت أن تمضي بتنمية ثروتك لك ذلك، ولكن دون أن تسطو على لقمة المظلوم. وهذا لن يتم إلا إذا كان الرقيب هو المسحوق وليس أنت. قد تحرك إعلامك «المحايد» حتى النخاع؛ وتسمي ذلك «ديكتاتورية»؛ ولكن هذا ما سيحدث!
«حتمية» الحرب حسب ثيوسيسدس كانت واقعاً، عندما كان المظلوم يعتقد بأن يوجد ظالم أفضل من آخر. أما وقد «تطور» وعي المسحوق وأدرك؛ أن لا مفر من انتزاع حقوقه بيده؛ فلن يساند ظالماً بعد اليوم بـ«حرب»؛ والحروب لا ينفذها إلا المسحوقون؛ والظالم أجبن من أن يخوض الحروب بنفسه! وفشلت الحروب بالنيابة! والحروب الاقتصادية في طريقها للفشل؛ وها هي الصين؛ التي مدت يدها لكل الشعوب؛ من أجل «تطوير»؛ «اقتصادي عولمي شامل»؛ لم يعر لها الرأسمال أذناً صاغية؛ بل شن حربه الاقتصادية والسياسية ضدها. ولكنها بكل هدوء المسحوقين «الديكتاتوريين»؛ أفشلت المحاولات الخائبة؛ وتسعى الآن اقتصادياً لرفع قيمة ليس اليوان الصيني وحسب؛ إنما قيمة كل العملات المحلية العالمية!
** **
- د. عادل العلي