«الجزيرة الثقافية» – محمد هليل الرويلي:
منذ عشر سنوات بدأت فكرة الكتاب (تدوين المجون في التراث العربي: عرض وكشف وتأويل)، كما أوضح الأستاذ الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد, وبصدوره مؤخرًا عن «دار كنوز المعرفة» بعمان. اتصلت «الثقافية» بدورها بالدكتور الرشيد مهنئة ومتسائلة عن محتويات ومضامين الإصدار والقصة الطريفة – ما كشف عنها في هذه المادة – التي ربطت الدكتور عبدالله الرشيد بالمجون.
وقال أ. د. عبدالله الرشيد تربطني بالمجون قصة طريفة: قبل نحو ثمانية وثلاثين عامًا كنت أقلب النظر في مكتبة مدرسية، فوقع نظري على كتاب (محاضرات الأدباء) للراغب الأصفهاني، فقلبت صفحاته، وعطف نظري أن فيه أوراقًا ممزقة، تبلغ نحو ثلاثين صفحة، وساقني الفضول إلى تبيّن ما في تلك الأوراق، وكنت إبان ذلك في السنة الجامعية الأولى عام 1404 (1983)، فوقعت على الكتاب في مكتبة الرشد، فلما قلبت صفحاته وجدت الصفحة الأولى الممزقة هناك بادئة بعنوان (الحدّ السادس عشر في المجون والسخف)، وإذا في الصفحات التي تليها نوادر وأخبار مما يمكن تسميته (الأدب المكشوف)، بل الذي تجاوز حدّ الكشف إلى الوقاحة والبذاء. والمهم أني اشتريت الكتاب – على رداءة طبعته - وأنعمت النظر في صفحاته كلها، فوجدت عجبًا من اقتران الجد بالهزل، فمن فصل ليس فيه سوى مواعظ مقربة إلى الله، وفصل يحوي معارف علمية عالية، وفصل ثالث يكاد يكون ملهيا لا تسمع فيه إلا أصوات المُجّان وهدير العيارين، وضحكات الوقحين.
ثم لحظت أن الفصول الجادة فيه لا تخلو من نادرة ماجنة تلوذ بأعطاف الموعظة، وخبر سخيف يستتر خلف المعرفة العلمية، وشعر مقذع صريح لا يبالي أن يظهر جليًّا بيّنًا. وفي أثناء ذلك كله يمتزج الجميل بالقبيح، ويعتنق الجدُّ الهزل، ويجاور البكاءَ من خشية الله استهتارٌ ووَلوعٌ بالمعصية وحضٌّ عليها!
وتابع: كان هذا الكتاب منطلق التفكير فيما رأيته بعدُ من ظاهرة الإقبال على تدوين المجون في التراث العربي، ومع الزمن وبقراءات متصلة في كتب التراث، ولا سيما الأدب والتراجم، راودتني فكرة دراسة هذه الظاهرة. ولم تخامرني العزيمة عليها إلا بعد إنهاء أبحاثي في الترقية، فبدأت بها جامعًا ما أقع عليه من إشارات هنا وهناك، مع أني أفدت من طريقتي التي أفدتها من غيري في تقييد ما أقع عليه مما يعطف النظر، ويثير السؤال، فتراكمت بين يدي مادة غزيرة مفيدة في دراسة هذه الظاهرة، ظلت تجتمع رويدًا رويدًا في نحو عشر سنوات.
ومضى الرشيد متسائلاً. والسؤال الكبير والإشكال الذي توخيت الإجابة عنه في كتابي، هو: كيف ساغ لمصنفي كتب التراث – وفيهم الفقيه والمحدِّث والمفسّر، واللغوي والأديب، والإخباري والبلداني والنسّابة، والمؤرّخ والطبيب وغيرهم - أن يحشُوا مصنّفاتهم بضروب من المجون الذي يتجاوز القدر المقبول من الأطراف والإحماض، ففيه من الخروج عن الأعراف الخلُقية، بَلْهَ العزائم الشرعية ما يندى له الجبين أحيانًا كثيرة، بل إن فيه ما يخرم مروءة المصنّف، ويستدعي ستر المكتوب وتمزيقه، حتى إن بعض ناشري كتب التراث في زماننا هذا حذفوا منها مواضع بل فصولًا؛ خجلًا مما فيها، وخشية تحمّل إشاعة الفاحشة –على ما عبّر بعضهم- وسعيًا إلى تنقيح التراث من تلك السوآت التي ناءت به.
وأضاف الدكتور الرشيد متابعًا الحديث, من أسئلة الكتاب المهمة: كيف توافتْ أذواق كثير من المصنفين القدماء على تدوين ما يُستقبَح من الأخبار، وما يسوء الأسماعَ من المجون الساقط؟ وهل صدروا في قبول ذلك عن حجج ومذاهب صحيحة في النظر إلى التأليف والتدوين؟ وهل فاؤوا فيه إلى أعراف ثقافية مشتركة؟
وقد توسعت في مفهوم المجون، فهو ليس التلفظ بالكلم المستحيا منه فحسب، ولا بالانطلاق في وصف ما يُحذر وصفه، أو التقحم على القول الصريح، بل هو أوسع من ذلك، فهو على ما بان من استعمالاته يشمل كل خروج عن الوقار. ففيه المزاح الهيّن، وفيه مزاح يُلمِح إلى ما يستحيا من ذكره والتصريح به (قيل لمزبّد: أيولد لابن ثمانين؟ قال: نعم، إذا كان له جار ابن ثلاثين)، وفيه القذَع والفحش، والجواب المسكت الفاحش، والأدب الواصف للشهوات والعورات ونحو ذلك.
وأنبه إلى أني لم أُعنَ بالمجون عند الأدباء، فلم أدرس خلاعة أبي نواس ووالبة وبشار والرقعاء الذين أفاض في ذكرهم الثعالبي وغيره، ولم أقف عند مفاكهات المترسلين الخارجة عن الجدّ إلى الهزل الصريح المكشوف؛ فتلك ظاهرة مطروقة مدروسة، ولا علاقة لي بها في دراستي هذه إلا بما يكشف بعض المسائل، وبما يربط أطراف الظاهرة بعضها ببعض.
وزاد: الموضوع من بعد واسع، وقد تولّدت منه فكَر بحثية كثيرة، بثَثْتها في بعض حواشيه، ونبهت إلى أهمها في خاتمته، ولعلي أفتح بها آفاقًا بحثية جديدة للمهتمين.
وأرجو أن يكون هذا الكتاب محرِّضًا على مثاقفة علمية رفيعة، ومثيرًا لنقاش ثريّ.