الهادي التليلي
عندما صدح العالم الألماني أرنست هيغل سنة 1866 وهو يؤسس لعلم البيئة بأن الخطر على العالم ليس من خارجه وإنما من سوء تعامل الإنسان مع ما ورثه من كنز طبيعي ولا من أي شيء آخر، أرنست هيغل قال حكمته المشهورة والتي نسبت بعد ذلك لكثير من الزعماء، وفي الحقيقة هو الأب الشرعي لها وهي لو يزرع كل إنسان أمام بيته شجرة ويقوم بنفسه بتنظيف محيط بيته سيتضاعف أمد حياة الكوكب، هذا الكلام الذي قيل قبل غزو التلوث كوكب الأرض بشكل لافت يرجع في الأصل إلى التعريف المرجعي لعلم البيئة حيث تفيد العبارة الإغريقية OIKOS إلى المنزل والمحيط والبيئة، ويشي هذا التعريف إلى ما يحيط بالإنسان في خط التماس مع العالم، هذا المفهوم الذي تنامى إلى OKOLOGIE ويعني علم البيئة ومنه المصطلح الإنجليزي ECOLOGYE، وفي الحقيقة أرنست لم يستمع إليه العالم ولكن بجهوده وجهود مناضلي العلوم المؤسسين تأسست علوم البيئة.
العالم الأخضر الذي يكون فيه الإنسان متفكرًا في مصيره وديمومته ككائن مسألة حيرت كذلك الفنانين والأدباء قديمًا وحديثًا، حيث إن دراما ميغيل دي سرفنتس «دون كيشوت» اعتبرها الكثيرون أول معركة للإنسان ضد العولمة، حيث رأوا في محاربة دونكيشوت للطواحين التي كانت وقتها أول سمات المجتمع الصناعي المحارب للطبيعة بدءًا بالصناعة التحويلية لأنه يقاوم جنود المستقبل التي هي العولمة التي بدأت بمحو المساحات الخضراء واكتساح الأراضي الزراعية بالمصانع، فالطبيعة الخضراء هي الملهاة للشعراء الرومنسيين من أمثال لامرتين وشاتوبريان وبول فاليري وغيرهم، بالطبيعة الغناء النقية أسست مدرسة أدبية كاملة أطلق عليها المدرسة الرومنسية.
العالم المعاصر أفرز نزعة كاملة من الأجبال المتتابعة التي ناضلت وتناضل من أجل حماية البيئة من تغول الصناعة وتمدد الصحراء وتسبخ الشواطىء وهجوم المياه الغامرة الذي نتج عنه غرق عديد الجزر رويدا رويدا، الطبيعة تغتال يومًا بعد يوم بما تنفثه المصانع والمفاعلات بما ينتج آفات ودمارات غير مستردة للكائن البيئي فانقرضت عديد المخلوقات والكائنات البحرية والبرية واندثرت المزروعات وتصحرت قرى وبقيت آثارًا في سنوات قليلة، ويكفي أن نذكر أن 12 مليون هكتار هي ما تفقده الأراضي في العالم جراء التصحر منها ما كانت تنتج حوالي 20 مليون طن من الحبوب للمعمورة، هذا ولا ننسى الرقم المفزع الذي قدمته الأمم المتحدة من أن أكثر من مليار شخص من 100 دولة مهددون بالعيش تحت خط الفقر جراء تفاقم هذه الظاهرة الإيكولوجية.. فالبشرية تخسر سنويًا أكثر من 42 مليار دولار جراء هذا الخطر الداهم، الأرقام مفزعة ومخيفة وتصيب المطلع عليها بالذعر، حيث إن 41.3 بالمائة من الأراضي في الكرة الأرضية هي من فئة الأراضي الجافة المهددة بنسبة كبيرة بظاهرة التصحر و44 بالمائة من الأراضي المزروعة هي من الأراضي الجافة، والمؤلم حقًا أن الدول ذات التقاليد الراسخة في المحافظة على البيئة بحكم الثقافة والمعتقد - ونتحدث هنا عن الصين - وصل بها سباق التصنيع المحتدم أنها تخسر سنويًا مساحات أراضي مهمة وصلت إلى 27 بالمائة من جملة أراضيها.
الإنسان الذي تحرك نحو الكواكب الأخرى بعلمه لم ينظر إلى محيطه القريب منه الـOIKOS حسب التعبيرة الإغريقية، ولم يحافظ على البيئة، فالتغول الذي سارت به الصناعة على البشر وأكلت البحر والبر والهواء وهددت وتهدد مصير الإنسان، وهنا يحضرنا التقرير المخيف الذي قدمته مجلة SCIENCES والذي أعده أكثر من 22 عالمًا رائدًا في مجال علوم البحار الذين وصلوا إلى نتائج تنذر بزوال الثروات البحرية وتغير الخارطة الإيكولوجية وانتشار أمراض وأوبئة خطيرة. هذا، وبينت الأبحاث والدراسات التي أعدتها مكاتب الأمم المتحدة المختصة بالبيئة أن التلوث الهوائي والذي تسببت فيه وتتسب الغازات الخطرة والتي من بينها أوكسيد الكربون والميثان وأثر ذلك على البيئة الهوائية وظاهرة الاحتباس الحراري وتغير النسيج البيئي من تغاير درجات الحرارة والاختلال في التوازن الطبيعي وتباينات الطقس وانتفاء المساحات الهوائية النقية من خلال تلوث يمس الإنسان والحيوان والنبات...
مبادرة المملكة العربية السعودية التي قدمها ولي عهدها للعالم تتنزل في هذا الإطار وتعتبر مساهمة المملكة في جهود العالم قصد إنقاذ الأجيال القادمة بترسيخ مقومات حياة حضرية واقتصادية تقوم على غير التلوث بالحفاظ على البيئة والإنسان، إذ سعت المبادرة والتي تنقسم إلى فقرتين كلاهما مبادرة لا تقل قيمة عن الأخرى، فالأولى تهم السعودية والثانية باقي دول الخليج والشرق الأوسط، وذلك بالمساهمة في الجهود العالمية لمكافحة الاحتباس الحراري وتقليل انبعاث الكربون قصد الحفاض على جودة الحياة دون مساس بنسق التطور، إنه التطور الأخضر بتقليل انبعاثات الكربون ومكافحة التلوث ومساهمة في الجهود الدولية للحد من الاحتباس الحراري، ولعل غراسة 10 ملايين شجرة خلال العقود القادمة ما يعني إعادة 40 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، أي 12 ضعف المساخات الحالية وبذلك تحقيق المستهدفات العالمية وأكثر بكثير مما يسمح بالحد من تدهور الأرض تنشيط الحياة الفطرية وتحقيق مساهمة فعالة من حلم أممي بزراعة 1 تريليون شجرة على مستوى العالم بـ10 ملايين على مستوى المملكة، فحسب فالخطة الواعدة والتي من خلالها تقوم السعودية من خلال قيادتها الرشيدة بدورها الإنساني كدولة رائدة تثابر من أجل البشرية بتقليل الانبعاثات الكربونية بأكثر من 4 بالمائة، وذلك بجهود تحقق 2.5 بالمائة من معدلات الانبعاثات الكربونية العالمية وتقليص الانبعاثات الصادرة عن البترول بنسبة تفوق 60 بالمائة، وترسيخ طاقة متجددة بسبة 50 بالمائة، حفاظًا على البيئة السليمة الخالية من النفايات السعودية التي لم تبدأ الآن في جهودها البيئية والدليل نتائجها المحققة في السنوات الأخيرة حيث رفعت تغطية المحميات الطبيعية بعدة أضعاف وزيادت الغطاء النباتي بنسبة 40 بالمائة والمنجز يفيض على الحصر.
المملكة العربية السعودية التي تكسو الخضرة علمها ورهاناتها وحتى تسمية عاصمتها الرياض لأنها تشي بالخضرة ترى من خلال مبادرتي ولي عهدها الريادي أنه لا يمكن أن نتحدث عن نماء وتطور خارج منظومة متكاملة تراعي جودة الحياة ورفاه الإنسان، وهو ما دفع بطرح المبادرة بشقيها المحلي والإقليمي بما يستجيب للشباب وكل الشرائح بتوفير فرص تشغيل محافظة على السلامة والبيئة وتتوافق مع رؤية شاملة تعد الرياض الخضراء وذا لاين بنيوم من بين علاماتها، كما أنها تنخرط في الخطاب الإنساني للمملكة التي ساندت الإنسانية دون تمييز في جائحة كورونا وناصرت الشعوب والقضايا العادلة وكذلك طرحت منوالاً تنمويًا تجسد في رؤية 2030 .